إنشاء الاستعانة المستمرة ﴿عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾؛ أي: على تحمل المكاره التي تذكرونا في أمر يوسف، أو على إظهار حال ما تصفون من شأن يوسف، وبيان كونه كذبًا، وإظهار سلامته كأنه عَلِمَ منه الكذب، وكأن (١) الله تعالى قد قَضَى على يعقوبَ أن يُوصِلَ إليه تلك الغموم الشديدةَ، والهمومَ العظيمة، لِيَكْثُرَ رُجُوعُه إلى الله تعالى، وينقطِعَ تعلق فكره عن الدنيا فيصلَ إلى درجةٍ عاليةٍ في العبودية، لا يمكن الوصول إليها إلَّا بتحمل المِحَنِ الشديدة، والله أعلم. وقرأ (٢) أبي والأشهب، وعيسى بن عمر: ﴿فصبرًا جميلًا﴾ بنصبهما، وكذا هي في مصحف أُبي، ومصحف أنس بن مالك. وروي كذلك عن الكسائي، ونَصبه على المصدر الخبريِّ، أي فاصبر صبرًا جميلًا. قيل: وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه، ولا يصلح النصبُ في مثل هذا إلا مع الأمر، وكذلك يَحْسُن النَّصْبُ في قوله:
شَكَا إِلَيَّ جَمَلِيْ طُوْلَ السُّرَى | صَبْرًا جَمِيْلًا فَكِلاَنَا مُبْتَلَى |
ومعنى الآية: أي إنهم جَاؤوا بقميصه مُلَطَّخًا ظاهره بدم غير دم يوسف، وهم يدعون أنه دمه ليشهد بصدقهم، فكانَ دليلًا على كذبهم، ومن ثم قال: ﴿عَلَى قَمِيصِهِ﴾ ليستبين للقارىء والسامع أنه موضوع وضعًا متكلفًا إذ لو كان من افتراس الذئب لتمزق القميصُ، وتغلغل الدم في كل قطعة منه، ومن أجل هذا كلِّه لم يصدِّقْهم، وقال: هيهاتَ ليس الأمرُ كما تدَّعون بل سَهَّلَتْ لكم أنفسكم الأَمَّارةُ بالسوءِ أمرًا نكرًا، وزينته في قلوبكم فطَوَّعته لكم حتى اقترفتموه، وسأصبر صبرًا جميلًا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه، حتى يفرجه الله بعونه ولطفه، وإنّي أستعين به على أن يَكْفِيَنِي شَرَّ ما تصفون من الكذب.
١٩ - ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ﴾؛ أي: رفقة مسافرون تسير من جهة الشام، يريدون مِصْرَ فأخطؤوا الطريقَ، فانطلقوا يَهِيمُون في الأرض حتى وقعوا في الأراضي التي فيها
(٢) البحر المحيط.