قيل: وإنما (١) خص المقام الأول بالتفكر لإمكان إيراد الشبهة المذكورة، وخص المقام الثاني بالعقل لذكره بعد إماطة الشبهة وإزاحة العلة، فمن لم يعترف بعدها بالوحدانية.. فلا عقل له، وخص المقام الثالث بالتذكر لمزيد الدلالة، فمن شك بعد ذلك.. فلا حس له، وفي هذا من التكلف ما لا يخفي، والأولى أن يقال هنا كما قلنا فيما تقدم في إفراد الآية في البعض وجمعها في البعض الآخر، وبيانه أن كلًّا من هذه المواضع الثلاثة يصلح لذكر التفكر ولذكر التعقل ولذكر التذكر، لاعتبارات ظاهرة غير خفية، فكان في التعبير في كل موضع بواحد منها افتنان حسن، لا يوجد في التعبير بواحد منها في جميع المواضع الثلاثة، والله أعلم بأسرار كتابه.
١٤ - وبعد أن ذكر أنواع النعم في البر شرع يفصل نعمه في البحر، فقال: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي سَخَّرَ﴾ وذلل لكم ﴿الْبَحْرَ﴾ العذب والملح، والبحر: الماء الكثير، أو الملح فقط؛ أي: جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والغوص والاصطياد.
قال بعضهم (٢): هذه البحور على وجه الأرض ماء السماء النازل وقت الطوفان، فإن الله تعالى أمر الأرض بعد هلاك القوم فابتلعت ماءها، وبقي ماء السماء لم تبتلعه الأرض، وأما البحر المحيط فغير ذلك، بل هو جزر عن الأرض حين خلق الله الأرض من زبده، ويجوز ركوب البحر بشرط علم السباحة وعدم دوران الرأس، وإلا فقد ألقى نفسه إلى التهلكة، وأقدم على ترك الفرائض، وذلك للرجال والنساء، كما قاله الجمهور، وكره ركوبه للنساء، لأن حالهن على الستر، وذا متعسر في السفينة، لا سيما في الزورق وهي السفينة الصغيرة.
امتن الله (٣) سبحانه وتعالى بتسخير البحر بإمكان الركوب عليه، واستخراج ما فيه من صيد وجواهر، لكونه من جملة النعم التي أنعم الله بها على عباده، مع

(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.


الصفحة التالية
Icon