بريء منه؛ أي: فقد (١) وضعوا الأشياء في غير مواضعها، وكذبوا على ربهم، إذ جعلوا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه إفكًا مفترى من قبل البشر، وكيف يتقولون ذلك على الرسول، وقد تحداهم أن يأتوا بمثله، وهم ذووا اللسن والفصاحة، والغاية في البلاغة فعجزوا أن يأتوا بمثله، ولو كان ذلك في مكنتهم ما ادخروا وسعًا في معارضته، وقد ركبوا الصعب، والذلول، ليدحضوا حجته، ويبطلوا دعوته فما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. ولو كان محمد - ﷺ -، قد استعان في ذلك بغيره.. لأمكنهم أيضًا أن يستعينوا هم بغيرهم، فما مثله في اللغة إلا مثلهم، فلما لم يفعلوا.. علم أنه قد بلغ الغاية التي لا تجارى. وانتهى إلى حد الإعجاز، إلى أنه اشتمل على الحكم والأحكام التي فيها سعادة البشر في معاشهم ومعادهم، كما اشتمل على أخبار من أمور الغيب، التي لا تصل إليها مدارك البشر ولا عقولهم.
٥ - وبعد أن حكى عنهم قولهم في الافتراء، بإعانة قوم آخرين عليه.. حكى عنهم طريق تلك الإعانة بقوله: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ وهذه هي الشبهة الثانية؛ أي: وقال الذين كفروا في حق القرآن، وهذا القرآن الذي جاء به محمد - ﷺ -، أساطير الأولين؛ أي: ما سطره (٢) وكتبه المتقدمون من الخرافات والأباطيل والأحاديث التي لا نظام لها مثل حديث رستم واسفنديار. ﴿اكْتَتَبَهَا﴾؛ أي: انتسخها محمد - ﷺ -، من جبر ويسار وعداس؛ أي: أمر أن تكتب له؛ لأنه - ﷺ - كان لا يكتب، وهو كاحتجم وافتصد إذا أمر بذلك؛ أي: أمرهم بكتابتها له، وقراءتها عليه ليحفظها، لأنه أمي. ﴿فهي﴾؛ أي: فتلك الأساطير. ﴿تُمْلَى عَلَيْهِ﴾؛ أي: تلقى على محمد - ﷺ -، وتقرأ عليه، بعد اكتتابها وانتساخها، ليحفظها من أفواه من يمليها عليه، لكونه أميًا، لا يقدر على أن يتلقاها منه بالقراءة والإملاء في الأصل حكاية القول لمن يكتبه. وهنا القراءة عليه من المكتوب.
﴿بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾؛ أي: أول النهار وآخره؛ أي: دائمًا أو خفيةً قبل انتشار الناس وحين يأوون إلى مساكنهم.

(١) المراغي.
(٢) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon