ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}، وقال هنا ﴿مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ﴾؟
قلت: غاير بينهما ليوافق كل ما في سياقه؛ لأنه ذكر هناك: ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ لموافقة قوله بعد ذلك: ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ﴾، وقال هنا: ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ ليوافق قوله فيما بعد: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)﴾؛ لأن الرحمن والرحيم من مادة واحدة، فهما أخوان، اهـ من "فتح الرحمن" بتصرف.
والمعنى: أي (١) وما يجيء هؤلاء المشركون الذين يكذبونك، ويجحدون ما أتيتهم به ذكر من عند ربك لتذكرهم به إلَّا أعرضوا عن استماعه، وتركوا إعمال الفكر فيه، ولم يوجهوا همهم إلى تدبره وفهم أسراره ومغازيه، وما كان أحراهم بذلك، وهم أهل الذكن والفطنة، ولكن طمس الله على قلوبهم فأكثرهم لا يعقلون، وخلاصة ذلك أنه لا يجدّد لهم موعطة وتذكيرًا إلَّا جدّدوا ما هو نقيض ذلك من إعراض وتكذيب واستهزاء.
٦ - ثم أكد إعراضهم بقوله: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا﴾ بالذكر عقب الإعراض، فالفاء للإفصاح؛ أي: جعلوه تارة سحرا، وأخرى شعرًا، ومرة أساطير الأولين؛ أي (٢): فقد كذبوا بالذكر الذي جاءهم تكذيبًا صريحًا، ولم يكتفوا بمجرد الإعراض. وقيل: إن الإعراض بمعنى التكذيب؛ لأن من أعرض عن شيء ولم يقبله فقد كذبه، وعلى هذا فيكون ذكر التكذيب للدلالة على صدور ذلك منهم على وجه التصريح، والأول أولى، فالإعراض عن الشيء عدم الالتفات إليه، ثم انتقلوا عن هذا إلى ما هو أشد منه؛ وهو التصريح بالتكذيب، ثم انتقلوا عن التكذيب إلى ما هو أشد منه؛ وهو الاستهزاء، كما يدل عليه قوله: ﴿فَسَيَأْتِيهِمْ﴾ البتة من غير تخلف أصلًا، والفاء للتفريع؛ أي: لإعراضهم المؤدي إلى التكذيب المؤدّى إلى الاستهزاء يأتيهم ﴿أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾؛ أي: أخبار (٣) الذكر الذي كانوا يستهزئون به، ومآله وعواقبه من العقوبات العاجلة والآجلة التي بمشاهدتها يقفون

(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon