قلتُ: لأن ما هنا تقدمه فعل بعد ﴿أَنْ﴾، وهو ﴿بُورِكَ﴾ فحسن عطف الفعل عليه، وما هناك لم يتقدمه فعل بعد ﴿أَنْ﴾، فذكرت ﴿أَنْ﴾؛ لتكون جملة ﴿وَأَنْ أَلْقِ﴾ معطوفة على جملة ﴿يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ﴾. وقوله: ﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ﴾ معطوف على محذوف، تقديره: فألقاها موسى من يده، فانقلبت حية تسعى، فلما رآها وأبصرها موسى حالة كونها تهتز وتضطرب وتتحرك بحركة شديدة، وتذهب إلى جانب، وحال كونها ﴿كَأَنَّهَا﴾: كأن تلك العصا ﴿جَانٌّ﴾؛ أي: حية صغيرة في سرعة الحركة وخفتها، فشبه الحية العظيمة المسماة بالثعبات بالجان في سرعة الحركة والالتواء، والجان (١) ضرب من الحيات؛ أي: حية كحلاء العين لا تؤذي كثيرة في الدور، كما في "القاموس".
قال أبو الليث: الصحيح أن الثعبان كان عند فرعون، والجان عند الطور، وقرأ الحسن (٢) والزهري وعمرو بن عبيد: ﴿جأن﴾ بهمزة مكان الألف، كأنه فر من التقاء الساكنين.
﴿وَلَّى مُدْبِرًا﴾؛ أي: هرب موسى منها مدبرًا؛ أي: رجع وأعرضين عنها هاربًا خوفًا منها. قال في "كشف الأسرار": أي أدبر عنها، وجعلها خلف ظهره. ﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾؛ أي: ولم يرجع على عقبه، من عقب المقاتل إذا كر بعد الفر، وإنما اعتراه الرعب؛ لظنّه أن ذلك الأمر أريد به هلاك نفسه، ويدل عليه قوله: ﴿يَا مُوسَى﴾؛ أي: قال الله تعالى: يا موسى ﴿لَا تَخَفْ﴾ من الحية وضررها، أو لا تخف من غيري مطلقًا ثقة بي لقوله: ﴿إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ﴾ أي: عندي ﴿الْمُرْسَلُونَ﴾ في حالة الإيحاء والإرسال، لا في جميع الأوقات، بل حين يوحي إليهم في وقت الخطاب، فإنهم حينئذ مستغرقون في مطالعة شؤون الله تعالى، لا يخطر ببالهم خوف من أحد أصلًا. أما الخوف في غير هذه الحالة فلا يفارقهم، قال النبي عليه السلام: "أنا أخشاكم"،
١١ - ولا يخاف من الملك العدل إلا ظالم، كما قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ استثناء متصل من ﴿المرسلين﴾؛ أي: إلا من ظلم

(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.


الصفحة التالية
Icon