ويُرهف السمع إلى ما سيأتي.
وقد ثبت بالاستقراء، أن كل سورة في أوائلها حروف التهجي، بُدئت بذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن نحو ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، ﴿المص (١) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ ﴿يس (١) وَالْقُرْآنِ﴾ ﴿ص وَالْقُرْآنِ﴾ ﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾ إلا ثلاث سور: ﴿كهيعص (١)﴾ ﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ﴾ ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢)﴾.
وقد بُدئت هذه السورة بالحروف وليس فيها البَدْءُ بالقرآن، أو الكتاب من قِبَلِ أن فيها ذكر جميع التكاليف، وهي شاقة على النفس، فحسن البدء بحروف التنبيه للإيقاظ إلى ما يُلقى بعدها.
٢ - وقد (١) حصل التنبيه في القرآن، بغير الحروف التي لا يُفهم معناها كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ وقوله ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ من قِبَلِ أن تقوى الله أمر عظيم، ومثلها تحريم ما أحل الله والهمزة في قوله: ﴿أَحَسِبَ﴾؛ أي: أظن ﴿النَّاسُ﴾ للاستفهام الإنكاري، وقوله: ﴿أَنْ يُتْرَكُوا﴾؛ أي: أن يُهملوا (٢) ساد مسد مفعولي حسب، لاشتماله على مسند ومسند إليه، وقوله: ﴿أَنْ يَقُولُوا﴾ بالسنتهم ﴿آمَنَّا﴾ على تقدير الجار؛ أي: لأن يقولوا، أو بأن يقولوا، أو على أن يقولوا، وقوله: ﴿وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾؛ أي: لا يُمتحنون في دعواهم بما يظهرها ويثبتها، حال من نائب فاعل يتركوا؛ أي: أظنوا أنفسهم متروكين بلا فتنة وامتحان، بمجرد أن يقولوا آمنا بالله؛ أي: أظن الناس الذين نطقوا بكلمة الشهادة، أنهم يتركون غير ممتحنين بمجرد ذلك النطق، لا بل يُمتحنون ليتميَّز الراسخ في الدين من غيره، وكلًّا نجازي بحسب مراتب عمله، يعني أن الله يمتحنهم بمشاق التكاليف كالممهاجرة والمجاهدة، ورفض الشهوات، ووظائف الطاعات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال، ليتميز المخلص من المنافق، والراسخ في الدين من المضطرب فيه، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات، فإن مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب.

(١) المراغي.
(٢) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon