فإن قيل: لِمَ (١) لَمْ يقل وما يعلمها إلا العاقلون، والعقل يسبق العلم؟
قلنا: لأن العقل آلة، تُدرك بها معاني الأشياء بالتأمل فيها، ولا يمكن التأمل فيها والوصول إليها بطريقها إلا بالعلم، ودلت الآية على فضل العلم على العقل، ولا عالم منا إلا وهو عاقل، فأما العاقل فقد يكون غير عالم.
٤٤ - ولما قدم سبحانه أن لا معجز له سبحانه، ولا ناصر لمن خذله، أقام الدليل على ذلك بقوله: ﴿خَلَقَ اللَّهُ﴾؛ أي: أنشا وأوجد سبحانه وتعالى ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ السبع ﴿وَالْأَرْضَ﴾ على غير مثال سابق، حالة كونه سبحانه متلبسًا ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي (٢): مراعيًا للحكم والمصالح، على أنه حال من فاعل خلق، أو حالة كونها متلبسة بالحق الذي لا محيد عنه، مستتبعةً للمنافع الدينية والدنيوية، على أنه حال من مفعوله، فإنها مع اشتمالها على جميع ما يتعلق به معاشهم شواهد دالة على وحدانيته، وعظم قدرته، وسائر صفاته، كما أشار إليه بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: في خلقهما ﴿لَآيَةً﴾ دالة على شؤونه؛ أي: لدلالة عظيمة وعلامة ظاهرة على قدرته، وتفرده بالإلهية ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ خص المؤمنين بالذكر مع عموم الهداية، والإرشاد في خلقهما للكل؛ لأنهم المنتفعون بذلك.
والمعنى: أي: خلق الله السموات والأرض لحكم وفوائد دينية ودنيوية، ولم يخلقهما عبثًا ولهوًا، فبخلقها أمكن إيجاد كل ممكن تعلق به العلم، واقتضت الإرادة إيجاده، وأمكن معرفة الخالق الذي أوجدها، وعبادته كفاء نعمه، كما جاء في الحديث القدسي، حكايةً عن الله عز وجل: "كنت كنزا مخفيًا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق فبي عرفوني" وفيه مقال.
ولا يفهم هذه الأسرار إلا من آمنوا بالله وصدقوا رسوله؛ لأنهم هم الذين يستدلون بالآثار مؤثرها، كما أثر عن بعض العرب: البعرة تدل على البعير، وآثار الأقدام تدل على المسير.
٤٥ - ثم خاطب رسوله مسليًا له بقوله: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾؛ أي: اقرأ يا محمد

(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon