مشيئتنا وإرادتنا تعلقًا فعليًا، بأن نعطي كل نفس من النفوس البرة والفاجرة ما تهتدي به إلى الإيمان، والعمل الصالح بالتوفيق لها، ﴿لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾؛ أي: لأعطيناها إياه في الدنيا، التي هي دار الكسب، فلم يكفر منهم أحد، وما أخرنا ذلك الإعطاء إلى دار الجزاء.
قال النحاس في معنى هذا قولان: أحدهما أنه في الدنيا، والآخر أنه في الآخرة؛ أي: ولو شئنا لرددناهم إلى الدنيا. اهـ.
﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾؛ أي: ثبت قضائي، وسبق وعيدي، وهو ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لأجعلن نار جهنم ملأى ﴿مِنَ الْجِنَّةِ﴾ بالكسر، جماعة الجن، والمراد: الشياطين وكفار الجن ﴿و﴾ من ﴿النَّاسِ﴾ الذين اتبعوا إبليس في الكفر والمعاصي ﴿أَجْمَعِينَ﴾ يستعمل لتأكيد الاجتماع على الأمر، هذا (١) هو القول الذي وجب من الله، وحق على عباده، ونفذ فيه قضاؤه، فكان مقتضى هذا القول: أنه لا يعطي كل نفس هداها، وإنما قضى عليهم بهذا؛ لأنه سبحانه قد علم أنهم من أهل الشقاوة، وأنهم مما يختار الضلالة على الهدى؛ أي: ولولا ذلك.. لأكرمت كل نفس بالمعرفة والتوحيد.
وقال بعضهم (٢): ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾؛ أي: سبقت كلمتي حيث قلت لإبليس عند قوله: ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ...﴾ الآية. ﴿لَأَمْلَأَنَّ...﴾ إلخ. وفي "التأويلات النجمية": ﴿وَلَوْ شِئْنَا﴾ في الأزل هدايتكم وهداية أهل الضلالة ﴿لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ بإصابة رشاش النور على الأرواح ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾ قبل وجود آدم وإبليس ﴿لَأَمْلَأَنَّ﴾ إلخ؛ أي: ولكن تعلقت المشيئة بإغواء قوم، كما تعلقت بإهداء قوم، وأردنا أن يكون للنار قطان، كما أردنا أن يكون للجنة سكان، إظهارًا لصفات لطفنا، وصفات قهرنا؛ لأن الجنة وأهلها مظهر لصفات لطفى، والنار وأهلها مظهر لصفات قهري، وإني فعال لما أريد. انتهى.
(٢) روح البيان.