فإن قلت (١): لم قدم الجن على الإنس في قوله: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾؟
قلت: قدمها لأن المقام مقام تحقير، ولأن الجهنميين منهم أكثر فيما قيل، ولا يلزم من قوله: ﴿أَجْمَعِينَ﴾ دخول جميع الإنس والجن فيها، لأنها تفيد عموم الأنواع لا الأفراد، فالمعنى: لأملأنها من ذينك النوعين جميعًا، كما ذكره بعض المحققين، ورد: بأنه لو قصد ما ذكر.. كان المناسب التثنية دون الجمع، بأن يقول: كليهما، فالظاهر أنها لعموم الأفراد، والتعريف فيهما للعهد، والمراد عصاتهما، ويؤيده قوله في آية أخرى خطابًا لإبليس: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)﴾، فتأمل.
ومعنى الآيتين: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ...﴾ إلخ؛ أي (٢): ولو ترى أيها الرسول هؤلاء القائلين: أئذا ضللنا في الأرض أننا لفي خلق جديد، ناكسي رؤوسهم عند ربهم، حياءً وخجلًا منه لما سلف منهم، من معاصيهم له في الدنيا، قائلين: ربنا أبصرنا الحشر، وسمعنا قول الرسول، وصدقنا به، فارجعنا إلى الدنيا نعمل صالح الأعمال.. لرأيت أمرًا فظيعًا، وهذا منهم عود على أنفسهم بالملامة إذا دخلوا النار، كما حكى عنهم سبحانه قولهم: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾.
ثم ادعوا اطمئنان قلوبهم حينئذٍ، وقدرتهم على فهم معاني الآيات، والعمل بموجبها، كما حكى الله عنهم بقوله: ﴿إِنَّا مُوقِنُونَ﴾؛ أي: إنا قد أيقنا الآن ما كنا به في الدنيا جهالًا من وحدانيتك، وأنه لا يصلح للعبادة سواك، وأنك تحيي وتميت، وتبعث من في القبور بعد الممات والفناء، وتفعل ما تشاء، ونحو الآية قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا...﴾ الآية.
﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾؛ أي: ولو أردنا أن نلهم كل نفس ما
(٢) المراغي.