تهتدي به إلى الإيمان، والعمل الصالح.. لفعلنا، ولكن تدبيرنا للخلق على نظمٍ كاملةٍ كفيلة بمصالحه، قضى أن نضع كل نفس في المرتبة التي هي أهل لها، بحسب استعدادها، كما توضع في الإنسان العين في موضع لا يصلح له الظفر، والإصبع والمعدة في موضع لا يصلح له القلب، وهذا هو المراد من قوله: ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾ إلخ؛ أي: ولكن سبق وعيدي بملء جهنم من الجنة والناس، الذين هم أهل لها بحسب استعدادهم، ولا يصلحون لدخول الجنة، كما لا يعيش البعوض والذباب إلا في الأماكن القذرة، ليخلص الجو من العفونات، ولو جعلا في القصور النظيفة النقية.. ما عاشا فيها، إذ لا يجدن فيها غذاءً ولا منفعةً لهما.
وهكذا هؤلاء، إذا رأوا العالم المضيء المشرق، والأنوار المتلألئة، والحياة الطيبة في الجنة.. لم يستطيعوا دخولها، وعجزوا عن ذلك، فما مثلهم إلا كمثل السمك، الذي لا يعيش في البر، ومثل ذوات الأربع التي لا تعيش في البحر.
١٤ - فلما بين لهم أنه لا رجوع لهم إلى الدنيا.. أنبهم على ما عملوا من تدسية نفوسهم بفعل المعاصي وترك الطاعة له، فقال: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾، و ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنه لا رجوع لكم إلى الدنيا، وأردتم بيان مآلكم.. فأقول لكم، ذوقوا. و ﴿الباء﴾: في قوله: ﴿بِمَا نَسِيتُمْ﴾: للسببية، أتى بها (١) إشارةً إلى أنه وإن سبق القول في حق التعذيب، لكنه كان بسبب موجبٍ من جانبهم أيضًا، فإن الله قد علم منهم سوء الاختيار، وذلك السبب هو نسيانهم لقاء هذا اليوم الهائل، وتركهم التفكر فيه، والاستعداد له بالكلية، بالاشتغال باللذات الدنيوية وشهواتها، فإن التوغل فيها يذهل الجن والإنس عن تذكر الآخرة وما فيها، من لقاء الله تعالى، ولقاء جزائه ويسلط عليهم نسيانها، وإضافة اللقاء إلى اليوم، كإضافة