يكن أهل مكة أهل حرث وزرع ﴿وَعَمَرُوهَا﴾؛ أي: عمر أولئك الأمم الأرض بفنون العمارات، من الزراعة، والغرس، والبناء، وغيرها مما يعد عمارة ﴿أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا﴾؛ أي: عمارة أكثر كمًا وكيفًا وزمانًا من عمارة أهل مكة إياها؛ لأن أولئك كانوا أطول منهم أعمارًا، وأقوى أجسامًا، وأكثر تحصيلًا لأسباب المعاش، فعمروا الأرض بالأبنية، والزراعة، والغراس، كيف لا، وأهل مكة أهل وادٍ غير ذي زرع، ما لهم إثارة الأرض أصلًا، ولا عمارة لهم رأسًا، فما هو إلا تهكم بهم، وتضعيف حالهم في دنياهم.
وقرأ أبو جعفر (١): ﴿وَأَثَارُوا الْأَرْضَ﴾ بمدة بعد الهمزة. وقال مجاهد: ليس بشيء، وخرجه أبو الفتح على الإشباع. وقرأ أبو حيوه: ﴿وآثروا الأرض﴾ بحذف ألف بين المثلثة والراء، من الأثرة، وهو الاستبداد بالشيء، وقرىء: ﴿وأثروا الأرض﴾؛ أي: أبقوا عنها آثارًا. ﴿وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: بالمعجزات الباهرات، والآيات الواضحات، والحجج القاطعات، فكذبوهم، فأهلكهم الله تعالى، ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه بما فعل بهم من العذاب والإهلاك ﴿لِيَظْلِمَهُمْ﴾ من غير جرم يستدعيه من جانبهم ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بالكفر والتكذيب.
والمعنى (٢): أي أولم يسر هؤلاء المكذبون بالله، الغافلون عن الآخرة في البلاد التي يسلكونها تجرًا، فينظروا إلى آثار الله فيما كان قبلهم من الأمم المكذبة، كيف كان عاقبة أمرهم في تكذيبهم رسلم، وقد كانوا أشد منهم قوةً، وحرثوا الأرض وعمروها أكثر مما عمر هؤلاء، ثم أهلكهم الله تعالى بكفرهم وتكذيبهم رسله، وما كان الله بظالم لهم بعقابه إياهم على تكذيبهم رسله، وجحودهم آياته، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، بمعصيتهم ربَّهم.
والخلاصة (٣): أنه قد كان لكم فيمن قبلكم من الأمم معتبر ومزدجر، فقد

(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.


الصفحة التالية
Icon