أردف ذلك بذكر ما تفضل به على ابنه سليمان من تسخير الريح، فتجري من الغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر، ومن منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر، وإذابة النحاس على نحو ما كان لداود من إلانة الحديد، وتسخير الجن عملة بين يديه، يعملون له شتى المصنوعات، من قصور شامخات، وصور من نحاس، وجفان كبيرة كالأحواض، وقدور لا تتحرك لعظمها؛ إذ كل منهما أناب إلى ربه، وجال بفكره في ملكوت السموات والأرض، وكان من المؤمنين المخبتين الذين هم على ربهم يتوكلون.
وعبارة أبي حيان هنا (١): مناسبة قصة داود وسليمان عليهما السلام لما قبلها: هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته عندهم، فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره؛ إذ طفحت ببعضه أخبارهم وشعراؤهم على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى، من تأويب الجبال والطير مع داود، وإلانة الحديد، وهو الجرم المستعصي، وتسخير الريح لسليمان، وإسالة النحاس له، كما ألان الحديد لأبيه، وتسخير الجن فيما شاء من الأعمال الشاقة.
وقيل: لما ذكر من ينيب من عباده.. ذكر من جملتهم داود، كما قال: ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ وبَيَّن ما آتاه الله على إنابته، فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا﴾، وقيل: ذكر نعمته على داود وسليمان عليهما السلام احتجاجًا على ما منح محمدًا - ﷺ -؛ أي: لا تستبعدوا هذا، فقد تفضلنا على عبيدنا قديمًا بكذا وكذا. فلما فرغ التمثيل لمحمد - ﷺ -.. رجع إلى التمثيل لهم بسبأ، وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو انتهى.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الْحَمْدُ﴾ بأقسامه الأربعة مستحق ﴿لِلَّهِ﴾ فلا تكون لغيره سبحانه. واعلم (٢) أنَّ الألف واللام في الحمد؛ إما للجنس، أو للاستغراق، أو للعهد، وعلى كلٍّ منها، فاللام في ﴿لِلَّهِ﴾ إما للملك، أو للاستحقاق، أو للاختصاص، فهذه ثلاثة في الثلاثة الأولى بتسع احتمالات: والأولى منها كون الألف واللام للجنس، واللام
(٢) سلم المعراج.