جهتنا بلا واسطة ﴿فَضْلًا﴾؛ أي: زيادة ودرجة؛ أي: نوعًا من الفضل على سائر الأنبياء مطلقًا، سواء كانوا أنبياء بني إسرائيل، أو غيرهم، كما دل عليه قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، والفاضل من وجه، لا ينافي كونه مفضولًا من وجه آخر. وهذا الفضل الذي أعطي داود عليه السلام هو ما ذكر بعد من تأويب الجبال، وتسخير الطير، وإلانة الحديد، فإنه معجزة خاصة به، وهذا لا يقتضي انحصار فضله فيها، فإنه تعالى أعطاه الزبور، كما قال في مقام الامتنان والتفضل: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾.
قال في "التأويلات النجمية": والفرق بين داود، وبين نبينا محمد - ﷺ -: أنه ذكر فضله في حق داود على صفة النكرة، وهي تدل على نوع من الفضل، وشيء منه، وهو الفيض الإلهي بلا واسطة، كما يدل عليه كلمة ﴿مِنَّا﴾، وقال في حق نبينا - ﷺ -: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ والفضل الموصوف بالعظمة يدل على كمال الفضل، وكذا قوله: ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾ لما أضاف الفضل إلى الله.. اشتمل على جميع أنواع الفضل. انتهى.
ويجوز أن يكون التنكير للتفخيم، و ﴿مِنَّا﴾ لتأكيد فخامته الذاتية لفخامته الإضافية على أن يكون المفضل عليه غير الأنبياء، فالمعنى إذًا: ولقد آتينا داود بلا واسطة فضلًا عظيمًا على سائر الناس، كالنبوة والعلم والقوة والملك والصوت الحسن، وغير ذلك.
وقوله: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾ مقول لقول محذوف هو بذل من آتينا؛ أي: ولقد آتينا داود منا فضلًا، وقلنا للجبال: يا جبال أوبي وسبحي مع داود إذا سبح، أو هو مقول لمصدر قول محذوف بدل من ﴿فَضْلًا﴾؛ أي: ولقد آتينا داود منا فضلًا، وقَوْلنا: يا جبال أوبي معه. والتأويب على معنيين:
أحدهما: الترجيع؛ لأنه من الأوب، وهو الرجوع.
والثاني: السير بالنهار كله. فالمعنى على الأول: رجِّعي معه التسبيح، وسبِّحي مرةً بعد مرة، وذلك بأن يخلق الله تعالى فيها صوتًا مثل صوته، كما خلق الكلام في شجرة موسى عليه السلام، فكان كلما سبَّح سمع من الجبال ما يسمع من المسبح، ويعقل معنى معجزةً له. قالوا: فمن ذلك الوقت يسمع الصدى من