قيل (١): إن ملك الموت أعلمه أنه بقي من حياته ساعة، فدعا الشياطين تجتمع حول محرابه، فلا ينظر أحد منهم إليه في صلاته إلا احترق، فمر واحد منهم، فلم يسمع صوته، ثم جمع فلم يسمع، فنظر فإذا هو قد خر ميتًا، وكان عمره ثلاثًا وخمسين سنة، ملك بعد موت أبيه وهو ابن ثلاثة عشرة سنة، فمدة ملكه أربعون سنة.
﴿فَلَمَّا خَرَّ﴾ وسقط سليمان ميتًا بعد سقوط عصاه من تحته ﴿تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ﴾؛ أي: علمت الجن علمًا يقينيًا ينتفي عنده الشكوك والشبه بعد التباس الأمر عليهم. من تبينت الشيء: إذا علمته بعد التباسه عليك ﴿أَنْ﴾ مخففة؛ أي: أنهم ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ﴾؛ أي: ما غاب عن حواسهم كما يزعمونه ﴿مَا لَبِثُوا﴾ وأقاموا ﴿فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾؛ أي: ذي الإهانة والخزي لهم، يعني الأشغال والتكاليف الشاقة، والأعمال الصعبة التي كانوا يعملونها لسليمان عليه السلام.
والحال: أنهم لو كان لهم علم بالغيب كما يزعمون.. لعلموا موت سليمان حين مات، ولما لبثوا بعده حولًا في تسخيره إلى أن خرَّ ميتًا، فلما وقع ما وقع علموا أنهم جاهلون، لا عالمون. ويجوز أن يؤخذ تبينت من: تبين الشيء: إذا ظهر وتجلى، فتكون أن مع ما بعدها بدل اشتمال من الجن، نحو: تبين زيد جهله؛ أي: ظهر للإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب.
وقال بعضهم: كانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى، فلم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلا احترق، فمر به شيطان، فلم يسمع صوته، ثم رجع، فلم يسمع صوته، فنظر فإذا سليمان قد خر ميتًا، ففتحوا عنه، فإذا العصا قد أكلتها الأرضة، فأرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها في يوم وليلة مقدارًا، فحسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة، وكانوا يعملون بين يديه، ويحسبونه حيًا، ولو علموا أنه مات.. لما لبثوا في العذاب سنة، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام.. أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين من الشراب.. سقيناك أطيب الشراب، ولكن ننقل إليك الماء والطين، فهم ينقلون ذلك لها حيث كانت، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. ألم ترَ إلى