﴿بَاعِدْ﴾ بصيغة الطلب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وهشام عن ابن عامر: ﴿بعّد﴾ بتشديد العين على صيغة الطلب. وقرأ ابن السميفع: ﴿بعُد﴾ بضم العين فعلًا ماضيًا، فيكون معنى هذه القراءة: الشكوى من بعد الأسفار. وقرأ أبو صالح ومحمد بن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم ويعقوب: ﴿ربنا﴾ بالرفع على الابتداء والخبر. ﴿باعد﴾ بفتح العين على أنه فعل ماض، والمعنى: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس، واختارها أبو حاتم، قال: لأنهم ما طلبوا التبعيد، إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب الذي كان بينهم وبين الشام القرى المتواصلة بطرًا وأشرًا وكفرًا للنعمة. وقرأ يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر: ﴿ربُّنا﴾ بالرفع ﴿بعَّد﴾ بفتح العين مشددة، فيكون معنى هذه القراءة: الشكوى بأن ربهم بعَّد بين أسفارهم مع كونها قريبة متصلة بالقرى والشجر والماء، فيكون هذا من جملة بطرهم. وقرأ أخو الحسن البصري كقراءة ابن السميقع السابقة آنفًا، مع رفع ﴿بينُ﴾ على أنه الفاعل، كما قيل في قوله: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾. وروى الفراء والزجاج قراءة مثل هذه القراءة، لكن مع نصب ﴿بين﴾ على أنه ظرف، والتقدير: بعد سيرنا بين أسفارنا، وقرىء: ﴿بُعِّد﴾، وقرأ ابن يعمر: ﴿بين سفرنا﴾ بالإفراد، والجمهور بالجمع.
قال النحاس (١): وهذه القراءات إذا اختلف معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى، كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن أخبر عنهم أنهم دعو ربهم أن يبعد بين أسفارهم، فلما فعل ذلك بهم شكوا وتضرروا، ولهذا قال سبحانه: ﴿وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ حيث كفروا بالله، وبطروا نعمته، وتعرضوا لنقمته ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾؛ أي: عظةً واعتبارًا للناس، يتحدثون بهم ويتمثلون بهم.
أي: جعلنا أهل سبأ أخبارًا وعظةً وعبرةً لم بعدهم، بحيث يتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم، ومعتبرين بعاقبتهم ومآلهم ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ﴾؛ أي: فرقناهم في كل جهة من البلاد ﴿كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾؛ أي: غاية (٢) التفريق وكامله، على أن الممزق مصدر، أو: كل مطرح ومكان تفريق، على أنه اسم مكان، وفي التعبير بالتمزيق
(٢) روح البيان.