٢١ - ثم ذكر أنه ابتلاهم ليظهر حال المؤمنين من حال الشاكين في الآخرة، فقال: ﴿وَمَا كَانَ لَهُ﴾؛ أي: لإبليس ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على بني آدم ﴿مِنْ سُلْطَانٍ﴾؛ أي: تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء، وإلا فهو ما سلَّ عليهم سيفًا، ولا ضربهم بعصى، والاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ متصل مفرغ من أعم العلل؛ أي: وما كان تلسيطنا إياه عليهم لعلة من العلل إلا لأجل أن نعلم ونميَّز ﴿مَنْ يُؤْمِنُ﴾ ويصدِّق ﴿بـ﴾ مجيء ﴿الْآخِرَةِ﴾ مع ما فيها من الأهوال ﴿مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ﴾؛ أي: ممن هو في شك في مجيئها، وقيل: الاستثناء فيه منقطع، والمعنى عليه: لا سلطان له عليهم، ولكن ابتليناهم بوسوسته، والمعنى على الأول: أي: ما كان له عليهم تسلط بحال من الأحوال، ولا لعلة من العلل إلا ليتميز من يؤمن بالآخرة، ومن لا يؤمن بها؛ لأنه سبحانه قد علم ذلك علمًا أزليًا. وقال الفراء: المعنى: إلا لنعلم ذلك عندكم، وقيل: إلا لتعلموا أنتم، وقيل: ليعلم أولياءنا والملائكة، والأولى: حمل العلم هنا على التمييز والإظهار، كما ذكرنا. وقرأ الزهري: ﴿إلا ليعلم﴾ بضم الياء وفتح اللام مبنيًا للمفعول.
ومعنى الآية (١): أي وما كان لإبليس على هؤلاء القوم من حجة يضلهم بها، ولكنا أردنا ابتلاءهم واختبارهم به ليظهر حال من يؤمن بالآخرة، ويصدِّق بالثواب والعقاب، ممن هو منها في شك، فلا يوقن بمعاد، ولا يصدق بثواب، ولا عقاب. قال الحسن البصري: والله ما ضربهم بعصى، ولا أكرههم على شيء، وما كان إلا غرورًا وأماني دعاهم إليها فأجابوه.
وخلاصة ذلك: لا سلطان لإبليس على قلوب الناس، ولكني أسلطه عليهم كما أسلِّط الذباب على العيون القذرة، والأوبئة على البلاد التي لم يراع أهلها شروط النظافة في مساكنهم وملابسهم ومآكلهم، ولا أفعل ذلك إلا لحكمة، فإذا حلَّ الوباء بأرض مات من لا قدرة له على مقاومة جراثيم الأمراض، وبقي من هو قادر على المقاومة، ولديه قوة المناعة، وهكذا وسوسة الشيطان يفرق الله بها بين الثابت العقيدة والمتزلزلها، ومن انقاد لها.. فلا يلومن إلا نفسه، وهو المذنب وحده، وهكذا جميع حوادث الدنيا من مصائب وآلام، يثبت لها ذوو العزيمة

(١) المراغي.


الصفحة التالية
Icon