والمعنى (١): ولا يغرنكم أيها الناس بالله الشيطان المبالغ في الغرور؛ بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعاصي، قائلًا: اعملوا ما شئتم إنّ الله غفور يغفر الذنوب جميعًا، وانه غني عن عبادتكم وتعذيبكم، فإنّ ذلك وإن أمكن، لكن تناول الذنوب بهذا التوقّع من قبيل تناول السم اعتمادًا على دفع الطبيعة. فالله تعالى، وإن كان أكرم الأكرمين مع أهل الكرم، لكنه شديد العقاب مع أهل العذاب. وقرأ الجمهور (٢): بفتح الغين، وفسّره ابن عباس رضي الله عنه بالشيطان. وقرأ أبو حيوة وأبو السمال ومحمد بن السميقع: بضمّ الغين، جمع: غار مثل: قاعد وقعود، أو مصدر كقوله: ﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ﴾، وعليه فالكلام على حذف مضاف؛ أي: صاحب الغرور والخداع، وهو الشيطان، يقال: غرّه غرورًا كلزمه لزومًا ونهكه نهوكًا.
ومعنى الآية (٣): أي إن وعد الله بالحشر والجزاء حق لا شكّ فيه، فلا تغرنّكم الحياة الدنيا، فيذهلنكم التمتع بمتاعها، ولا يلهينكم التلهي بزخارفها عن تدارك ما ينفعكم يوم حلول الميعاد اتباعًا لوساوس الشيطان.
والخلاصة: أنّكم لا تغتروا بالحياة الدنيا، وتتركوا فعل ما أمرتم به، وتفعلوا ما نهيتم عنه.
٦ - ثمّ ذكر العلة في عدم الاغترار بالشيطان فقال: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ﴾ يا بني آدم لا لغيركم ﴿عَدُوٌّ﴾ عظيم عداوة قديمة بما فعل بأبيكم ما فعل لا تكاد تزول، أو معلن عداوته لكم بوسوسته. ﴿فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ بمخالفتكم له في عقائدكم وأفعالكم، وكونكم على حذر منه في جميع أحوالكم؛ أي: فعادوه أنتم أشدّ العداوة بطاعة ربكم، وخالفوه فيما أمركم به من معصية الله، وكذبوه فيما يغرنكم به، فلا تكفي (٤) العداوة باللسان فقط، بل يجب أن تكون بالقلب والجوارح جميعًا، ولا يقوى المرء على عداوته إلّا بملازمة الذّكر ودوام الاستعانة بالربّ، فإنّ من هجم عليه كلاب الرّاعي يشكل عليه دفعها إلّا أن ينادي الراعي، فإنه يطردها بكلمة منه. ثمّ بيّن لعباده كيفية عداوة الشيطان لهم فقال: ﴿إِنَّمَا يَدْعُو﴾ الشيطان ﴿حِزْبَهُ﴾؛ أي أشياعه وجماعته وأتباعه المطيعين له إلى معاصي الله سبحانه. ﴿لِيَكُونُوا﴾؛ أي:
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.