خطب ملم، فإن كل حادثٍ مفتقر إلى خالقه ليبديه وينشأه أولًا، ويديمه ويبقيه ثانيًا، ثم الإنسان محتاج إلى الرزق، ونحوه من المنافع في الدنيا مع دفع المكاره والعوارض، وإلى المغفرة ونحوها في العقبى، فهو محتاج في ذاته وصفاته وأفعاله إلى كرم الله تعالى وفضله. وإنما (١) خاطب الناس بذلك، وإن كان كل ما سوى الله فقيرًا إليه؛ لأن الناس هم الذي يدّعون الغنى ونسبوه لأنفسهم، قال بعضهم (٢): إن الله سبحانه ما شرف شيئًا من المخلوقات بتشريف خطاب أنتم الفقراء إلى الله حتى الملائكة المقربين، سوى الإنسان، وذلك أن افتقار المخلوقات إلى أفعال الله تعالى من حيث الخلق ونحوه، وافتقار الإنسان إلى ذات الله وصفاته، فجميع المخلوقات وإن كانت محتاجة إلى الله تعالى لكن الاحتياج الحقيقي إلى ذات الله وصفاته مختص بالإنسان من بينها، كمثل سلطان له رعية، وهو صاحب جمال، فيكون افتقار جميع رعاياه إلى خزائنه وممالكه، ويكون افتقار عشاقه إلى عين ذاته وصفاته، فيكون غنى كل مفتقر بما يفتقر إليه، فغنى الرعية يكون بالمال والملك، وغنى العاشق يكون بمعشوقه. انتهى.
قال ذو النون (٣): الخلق محتاجون إليه تعالى في كل نفس وخطرة ولحظة، وكيف لا ووجودهم وبقاؤهم به. والفقراء (٤): جمع فقير: والفقير: من صيغ المبالغة كالمفتقر بمعنى ذي الاحتياج الكثير والشديد، والفقر: وجود الحاجة الضرورية، وفقد ما يحتاج إليه وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم، فإنهم لكثرة افتقارهم وشدة احتياجهم هم الفقراء فحسب، وإن افتقار سائر المخلوقات بالنسبة إلى فقرهم كالعدم.
والمعنى (٥): يا أيها الناس أنتم أشد الخلق افتقارًا إلى الله تعالى، واحتياجًا إليه في أنفسكم وعيالكم وأموالكم، وفيما يعرض لكم من سائر الأمور، فلا غنى لكم عنه طرفة عين، ولا أقل من ذلك، ومن هنا قول الصديق رضي الله عنه: من عرف نفسه عرف ربه. أي: من عرف نفسه بالفقر والذل والعجز والمسكنة عرف ربه
(٢) روح البيان.
(٣) النسفي.
(٤) روح البيان.
(٥) الصاوي.