أمامهم سدًا عظيمًا، ومن ورائهم سدًا كذلك، فغطينا بهما أبصارهم، فهم بسبب ذلك لا يقدرون على إبصار شيء ما أصلًا، وإما تمثيل مستقل، فإن ما ذكر من جعلهم حصورين بين سدين هائلين قد غطّينا بهما أبصارهم بحيث لا يبصرون شيئًا قطعًا كافٍ في الكشف عن فظاعة حالهم، وكونهم محبوسين في مطمورة الغيّ والجهالات، محرومين من النظر في الأدلّة والآيات.
قال الإِمام (١): المانع من النظر في الآيات والدلائل قسمان: قسم يمنع من النظر في الآيات التي في أنفسهم، فشبّه ذلك بالغسل الذي يجعل صاحبه مقمحًا لا يرى نفسه، ولا يقع بصره على بدنه، وقسم يمنع من النظر في آيات الآفاق، فشبّه بالسد المحيط، فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الآفاق، فلا تتبيّن له الآيات التي في الآفاق، كما أن المقمح لا تتبيّن له الآيات التي في الأنفس، فمن ابتلى بهما حرم من النظر بالكلية؛ لأن الدلائل والآيات مع كثرتها منحصرة فيهما، كما قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا﴾ مع قوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾. إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله تعالى في الأنفس والآفاق.
وقيل (٢): نزلت هذه الآيات في أبي جهل بن هشام، وصاحبيه المخزوميين، وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدًا يصلي.. ليرضخن رأسه بحجر، فلما رآه يصلي ذهب إليه فرفع حجرًا ليرميه، فلما أوما إليه.. رجفت يداه إلى عنقه، والتصق الحجر بيده إلى عنقه، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى، قال الوليد بن المغيرة: أنا أرضخ رأسه، فأتاه وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر، فأعمى الله بصره، فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه، قال: واللهِ ما رأيته، ولقد سمعت صوته، فقال الرجل الثالث: واللهِ لأشدخنَّ رأسه، ثم أخد الحجر وانطلق، فرجع القهقرى ينكص على عقبيه، حتى خرّ على قفاه مغشيًّا عليه، فقيل له: ما شأنك؟ قال: شأني عظيم، رأيت الرجل، فلما دنوت منه.. فإذا فحل يخطر بذنبه ما رأيت قط فحلًا أعظم منه حال بيني وبينه، فواللاتِ والعزى لو دنوت منه.. لأكلني، فأنزل الله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ

(١) روح البيان.
(٢) المراح.


الصفحة التالية
Icon