جبرائيل عليه السلام، فصاح بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم، فذلك قوله تعالى: ﴿وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ﴾؛ أي: على قوم حبيب النجار، وهم أهل أنطاكية. ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾؛ أي: من بعد قتلهم له، أو من بعد رفع الله له إلى السموات على الاختلاف السابق. ﴿مِنْ جُنْدٍ﴾ وعسكر ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ ولم نرسل عليهم جندًا من الأرض، لإهلاكهم وللانتقام منهم؛ أي: لم نحتج إلى إرسال جنود من السماء لإهلاكهم، كما وقع ذلك للنبي - ﷺ - يوم بدر، من إرسال الملائكة لنصرته وحرب أعدائه، بل كفينا أمرهم بصيحة ملك. ﴿وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ﴾؛ أي: وما صح واستقام في قضائنا وحكمتنا أن ننزل لإهلاك قومه جندًا من السماء، لسبق قضائنا وقدرنا، بأن إهلاكهم بالصيحة لا بإنزال الجند، فإنا جعلنا لكل شيء سببا يخصه، حيث أهلكنا بعض الأمم بالحاصب، وبعضهم بالصيحة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالإغراق، وجعلنا إنزال الجند من السماء من خصائصك في الانتصار من قومك.
وفي الآية: استحقار لأهل أنطاكية ولإهلاكهم، حيث اكتفى في استئصالهم بما يتوسل به إلى زجر، نحو الطيور والوحوش، من صيحة عبد واحد مأمور، وإيماء إلى تفخيم شأن الرسول - ﷺ -؛ لأنه إذا كان أدنى صيحة ملك واحد، كافيًا في إهلاك جماعة كثيرة، ظهر أن إنزال الجنود من السماء يوم بدر والخندق لم يكن إلا تعظيمًا لشأنه، وإجلالًا لقدره، لا لاحتياج الملائكة إلى المظاهرة والمعاونة.
فإن قيل: كما لم ينزل عليهم جندًا من السماء، لم يرسل إليهم جندًا من الأرض أيضًا، فما فائدة قوله: ﴿مِنَ السَّماءِ﴾؟
فالجواب: أنه ليس للاحتراز، بل لبيان أن النازل عليهم من السماء لم يكن إلا صيحةً واحدة أهلكتهم بأسرهم؛ أي: ليسوا بأحقّاء بأن ننزل لإهلاكهم جندًا من السماء،
٢٩ - بل أهلكناهم بصيحة واحدة، كما يفيده قوله: ﴿إِنْ كانَتْ﴾؛ أي: ما كانت الأخذة أو العقوبة على أهل أنطاكية ﴿إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً﴾ صاح بها جبرائيل، فأهلكهم قال المفسرون: أخذ جبرائيل بعضادتي باب المدينة، ثم صاح بهم صيحة، فإذا هم ميتون لا يسمع لهم حسّ، كالنار إذا انطفأت، وهو معنى قوله: