تقتضيه الحكمة، ويوجبه العدل بين العباد. فيعطي كل عامل جزاء ما قدمت يداه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ثم فصل بعض ما استحقوا لأجله العذاب، فقال: إنهم كانوا إذا لقنوا كلمة التوحيد نفروا منها، وأعرضوا عن قبولها، وصعروا خدودهم أنفة وكبرا أن يسمعوا مثلها.
واعلم: أنه وقع ذكر ﴿لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ في القرآن في موضعين:
أحدهما: في هذه السورة.
والثاني: في سورة القتال في قوله: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ﴾. وليس في القرآن لهما ثالث.
٣٦ - ثم ذكروا السبب الذي لأجله امتنعوا من استجابة دعوته، فيما حكاه عنهم بقوله: ﴿وَيَقُولُونَ﴾؛ أي: المشركون بعضهم لبعض. والهمزة في قوله: ﴿أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا﴾ للاستفهام الإنكاري؛ أي: ما نحن بتاركي عبادة آلهتنا وهي الأصنام. ﴿لِشاعِرٍ﴾؛ أي: لأجل قول شاعر ﴿مَجْنُونٍ﴾؛ أي: مغلوب على عقله، يعنون محمدًا - ﷺ -؛ أي: أنترك عبادة الآلهة التي ورثناها عن آبائنا كابرا عن كابر، ونستمع لقول شاعر يخلط ويهذي. فمثله لا يستمع لكلامه، ولا يصغي إلى قوله.
ولقد كذبوا في ذلك حيث جنّنوه وشعّروه، وقد علموا أنه أرجح الناس عقلًا، وأحسنهم رأيًا، وأشدهم قولًا، وأعلاهم كعبًا في المآثر والفضائل كلها، وأطولهم باعا في العلوم والمعارف بأسرها. ويشهد بذلك خطبة أبي طالب في تزويج خديجة الكبرى في محضر بني هاشم، ورؤساء مضر على ما سبق في سورة آل عمران عند قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ...﴾ الآية.
وقد جمعوا في كلامهم هنا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة. فإنكار الأولى في استكبارهم حين سماع كلمة التوحيد، وإنكار الثانية في قولهم: ﴿أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾.
٣٧ - ثم كذبهم سبحانه، فيما قالوا، فقال: ﴿بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ﴾؛ أي: ليس الأمر على ما قالوه من الشعر والجنون، بل جاء محمد - ﷺ - بالحق. وهو التوحيد.