تتميمًا للنعمة، كما هو حال العظماء في الدنيا، فيؤتى لهم بصنوف الخمور على سبيل السعة والكثرة، كأنها تؤخذ من نهر جار، فلا تقتير ولا بخل، بل كلما طلبوا وجدوا. وفي ذلك إشارة إلى أنها رقيقة لطيفة، وأنها ليست كخمر الدنيا تداس بالأقدام، كما قال شاعرهم:

وَشَمُولَةٍ مِنْ عَهْدِ عَادٍ قَدْ غَدَتْ صَرْعَى تُدَاسُ بِأَرجُلِ العُصَّارِ
لانَتْ لَهُم حَتَّى انْتَشَوا فَتمَكَّنَتْ مِنْهُمْ فَصَاحَتْ فِيْهِمُ بِالثَّارِ
٤٦ - وقوله: ﴿بَيْضاءَ﴾ ممنوع من الصرف لألف التأنيث؛ أي: يطاف عليهم بكأس بيضاء لونًا أشد من لون اللبن، والخمر البيضاء لم تر في الدنيا، ولن ترى. وهذا من جملة: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وبيضاء تأنيث أبيض، صفة ثانية أيضًا لكأس، وكذا قوله: ﴿لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ صفة ثالثة له؛ أي: لذيذة لكل من يشرب منها. ووصفها (١) بلذة - الذي هو مصدر - إما للمبالغة؛ أي: كأس لذيذة عذبة شهية طيبة، صارت في لذتها كأنها نفس اللذة، أو لأنها تأنيث اللذ بمعنى اللذيذ. وصفها باللذة بيانًا لمخالفتها لخمور الدنيا لانقطاع اللذة من خمور الدنيا كلها رأسًا بالكلية.
والمعنى (٢): أي يطاف عليهم بكأس لونها مشرق حسن بهي، لا كخمر الدنيا ذات المنظر البشع واللون الأسود أو الأصفر أو الذي فيه كدورة إلى نحو ذلك مما ينفّر الطبع السليم. وهي لذيذة الطعم كما هي طيبة اللون وطيبة الريح. وقد وصفوا خمر الدنيا بالصفرة، كما قال أبو نواس:
صَفْرَاءُ لا تَنْزلُ الأَحْزَانُ سَاحَتَهَا لَوْ مَسَّهَا حَجَرٌ مَسَّتْهُ سَرَّاءُ
وجاء وصفها بالحمرة قبل المزج والصفرة بعده، كما قال الآخر:
وَحَمْراءُ قَبْلَ الْمَزْجِ صَفْرَاءُ بَعْدَهُ أَتَتْ فِيْ ثِيَابِيْ نَرْجِسٍ وَشَقَائِقِ
حَكَتْ وَجْنَةً المَحْبُوبِ صِرفًا فَسُلِّطُّوا عَليْهَا مَزاجًا فَاكتسبت لَوْن عَاشِق
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.


الصفحة التالية
Icon