الفضل بترك العقاب المستحق، وإيراد صفة واحدة في جانب الغضب بين صفات الرحمة: دليل سبقها ورجحانها.
والمعنى: أي وهو سبحانه الإله الذي يغفر ما سلف من الذنوب، ويقبل التوبة في مستأنف الأزمنة لمن تاب وخضع، وهو شديد العقاب لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا، وعثا عن أوامر الله وبغى، المتفضل على عباده، المتطول عليهم بما هم فيه من المنن والنعم، التي لا يطيقون القيام بشكرها، ولا شكر واحدة منها، كما قال: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾.
وذكر: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾؛ لترغيب عباده العاصين، وذكر: ﴿شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾ لترهيبهم، وفي مجموع هذا الحث على فعل المراد من تنزيل الكتاب، وهو التوحيد والإيمان بالبعث، والإخلاص لله في العمل، والإقبال عليه، وقد جمع القرآن هذين الوصفين في مواضع كثيرة منه، كقوله: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩)﴾ ﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠)﴾ ليبقى العبد بين الخوف والرجاء ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ سبحانه، فيجب الإقبال الكلي على طاعته في أوامره ونواهيه ﴿إِلَيْهِ﴾ تعالى فحسب، لا إلى غيره، لا استقلالًا ولا اشتراكًا ﴿الْمَصِيرُ﴾؛ أي: المرجع والمآب؛ أي: رجوع الخلق إليه سبحانه في الآخرة، فيجازي كلا من المطيع والعاصي.
٤ - ثم لما ذكر أن القرآن كتاب الله، أنزله ليهتدى به في الدين.. ذكر أحوال من يجادل فيه بقصد إبطاله، فقال: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾؛ أي: ما يخاصم وينازع في دفع آيات الله وإبطالها. وتكذيبها؛ أي: ما يخاصم في آيات الله تعالى التنزيلية، أو التكوينية بالطعن فيها، بأن يقول في حقها سحرًا أو شعرًا أو أساطير الأولين أو نحو ذلك، وباستعمال المقدمات الباطلة لإدحاضه وإزالته وإبطاله، لقوله تعالى: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ فحمل المطلق هنا على المقيد هناك، وأريد بالجدال المذكور هنا: الجدال بالباطل، أما الجدال لاستيضاح الحق ورفع اللبس، والبحث عن الراجح والمرجوح، وعن المحكم والمتشابه، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن، وردهم بالجدال إلى المحكم.. فهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون، ومن أفضل الطاعات، كالجهاد في سبيل الله تعالى.