ولما كانت هذه السورة مصدرةً بذكر الكتاب الذي قدرت فيه الأحكام، وبينت.. ناسب أن تفتح بـ ﴿حم (١)﴾ رعايةً لبراعة الاستهلال، وإنما سميت هذه السور السبع بـ ﴿حم (١)﴾؛ لاشتراكها في الاشتمال على ذكر الكتاب، والرد على المجادلين في آيات الله تعالى، والحث على الإيمان بها، والعمل بمقتضاها ونحو ذلك.
وقال بعضهم: معنى الحاء. والميم؛ أي: هذا الخطاب والتنزيل من الحبيب الأعظم إلى المحبوب المعظم، وقيل: هو قسم أقسم به تعالى؛ أي: بحياتي ومجدي هذا تنزيل، أو بحياتك ومشاهدتك يا حبيبي ويا محبوبي، أو بالحجر الأسود والمقام، فإنهما ياقوتتان من يواقيت الجنة، وسران عظيمان من أسرار الله تعالى، فناسب أن يقسم بهما، أو هذه الحروف ﴿تَنْزِيلٌ﴾ إلخ. نزل بها جبريل عليه السلام من عند الله تعالى وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين.
٢ - وقوله: ﴿تَنْزِيلٌ﴾: خبر بعد خبر؛ أي: هذه السورة مسماة بحم، منزلة من عنده تعالى؛ لأن التعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور، كقولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير؛ أي: مضروبه، ومعنى كونها منزلة: أنه تعالى كتبها في اللوح المحفوظ، وأمر جبريل أن يحفظ تلك الكلمات، ثم ينزل بها على رسوله - ﷺ -، ويؤديها إليه، فهلما حصل تفهيم هذه الكلمات بواسطة نزول جبريل.. سمي ذلك تنزيلًا، وإلا فالكلام النفسي القائم بذات الله تعالى لا يتصور فيه النزول والحركة من الأعلى إلى الأسفل، وقوله: ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ متعلق بـ ﴿تَنْزِيلٌ﴾ مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية، ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم؛ للإيذان بأن القرآن مدار للمصالح الدينية والدنيوية واقع بمقتضى الرحمة الربانية، وذلك لأن المنزل ممن صفته الرحمة الغالبة، لا بد وأن يكون مدارًا للمصالح كلها،
٣ - وقوله: ﴿كِتَابٌ﴾: خبر آخر مشتق من الكتب، وهو الجمع، فسمي كتابًا لأنه جمع فيه علوم الأولين والآخرين، وقوله: ﴿فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ صفة ﴿كِتَابٌ﴾؛ أي: كتاب بينت آياته بالأمر والنهي، والحلال والحرام، والوعد والوعيد، والقصص والتوحيد، وقرىء: ﴿فَصَلت﴾ (١) بفتح الفاء والصاد مخففةً؛