مبتدأ من الجانبين، بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة المعبر عنها بالبين ولم يبق ثمة فراغ أصلًا، فيكون حجابًا قويًا عريضًا مانعًا من التواصل بخلاف ما لو قيل: بيننا وبينك، فإنه يدل على مجرد حصول الحجاب في المسافة المتوسطة بينهم وبينه من غير دلالة على ابتدائه من الطرفين، فيكون حجابًا في الجملة، لا كما ذكروا:
هذا فائدة زيادة من في قوله: ﴿مِنْ بَيْنِنَا﴾ شبهوا حال أنفسهم مع رسول الله - ﷺ - بحال شيئين بينهما حجاب عظيم، يمنع من أن يصل أحدهما إلى الآخر ويراه ويوافقه، وإنما (١) اقتصروا على ذكر هذه الأعضاء الثلاثة؛ لأن القلب محل المعرفة، والسمع والبصر أقوى ما يتوسل إلى تحصيل المعارف، فإذا كانت هذه الثلاثة محجوبة.. كان ذلك أقوى ما يكون من الحجاب.
وقصارى ما يقولون (٢): أن قلوبهم نابية عن إدراك ما جئت به من الحق وتقبله واعتقاده، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها، وأسماعهم لا يدخل إليها شيء منه، كأن بها صممًا، ولتباعد الدّينين وتباين الطريقين، كأن بينهم وبين رسول الله - ﷺ - حجاب كثيف وحاجز منيع، ثم بارزوه بالخلاف، وشن الغارات الجدلية، بما لم يبق بعده مجال للوفاق، فقالوا: ﴿فَاعْمَلْ﴾ على دينك ﴿إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ على ديننا، وقال الكلبي (٣): اعمل في هلاكنا، فإنا عاملون في هلاكك، وقال مقاتل: اعمل لإلهك الذي أرسلك، فإنا نعمل لآلهتنا التي نعبدها، وقيل: اعمل لآخرتك، فإنا عاملون لدنيانا، وقيل: فأعمل في إبطال أمرنا جهد طالتك، ونحن نعمل جاهدين في فض الناس من حولك، وتشتيت شمل من آمن بك، حتى تبطل دعوتك.
٦ - ثم أمره سبحانه أن يجيب عن قولهم هذا فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد، لهؤلاء المشركين، جوابًا لهم عما يقولون: ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾؛ أي: إنما أنا كواحد منكم لولا الوحي، ولم أكن من جنس مغاير لكم حتى تكون قلوبكم في أكنة مما أدعوكم إليه، وفي آذانكم وقر، ومن بيني وبينكم حجاب، إلا أني يوحي إلى ﴿أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾؛ أي: ما إلهكم الذي يستحق العبادة منكم إلا إله واحد لا غيره،

(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.


الصفحة التالية
Icon