أي (١): قالت الجلود: إن الله جعل فينا من الدلالات الفعلية ما يقوم مقام النطق؛ بل ما هو أفصح منها، فشهدنا عليكم بما فعلتم من القبائح، وفي "صحيح مسلم": عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - ﷺ -، فضحك فقال: "هل تدرون ممّ أضحك؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "من مخاطبة العبد ربه، يقول: ألم تجِرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أُجير على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: يقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله، قال: ثمّ يخلَّى بينه وبين الكلام، قال: فيقول بعدًا لكن، وسحقًا. فعنكن كنت أناضل".
﴿وَهُوَ خَلَقَكُمْ﴾؛ أي: والحال أنه سبحانه وتعالى خلقكم وأوجدكم أيها الكفرة ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ من العدم المحض ﴿وَإِلَيْهِ﴾ تعالى ﴿تُرْجَعُونَ﴾؛ أي: تردون فإن من قدر على خلقكم وإنشائكم أولًا، وعلى إعادتكم ورجعكم؛ أي: ردّكم إلى جزائه ثانيًا، لا يتعجّب من إنطاقه لجوارحكم، فهو لا يخالف ولا يمانع، وقد جعل فيكم دلائل واضحةً كخطوط اليد والإبهام والأصوات وألوان الوجوه وأشكالها، ولكن قليلًا من الناس من يفطن إلى ذلك، فمن قدر على خلقكم وإنشائكم ابتداءً.. قدر على إعادتكم ورجعكم إليه، ومن ثمّ قال: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾؛ أي: وإليه مصيركم بعد مماتكم، فيجازي كل نفس بما كسبت، لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب، قيل: هذا من تمام كلام الجلود، وقيل: مستأنف من كلام الله تعالى
٢٢ - ﴿وَمَا كُنْتُمْ﴾ أيها الكفرة ﴿تَسْتَتِرُونَ﴾ في الدنيا بنحو الحيطان عند الإقدام على الأفعال القبيحة مَخافة ﴿أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ﴾ في الآخرة، وقوله (٢): ﴿أَنْ يَشْهَدَ﴾ في موضع الجر على تقدير المضاف؛ أي: مخافة أن يشهد، أو في موضع النصب بإسقاط الخافض؛ أي: من أن يشهد لأنّ استتر لا يتعدّى بنفسه، و ﴿لا﴾: في الموضعين زائدة لتأكيد النفي.
وهذه حكاية لما سيقال للأعداء يومئذ من جهته تعالى بطريق التوبيخ والتقريع، تقريرًا لجواب الجلود.
والمعنى: وما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش، مخافة أن

(١) المراغي.
(٢) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon