الخطاب إلى الغيبة؛ لأنهم فعلوا الإعراض فليس له إلا أن يعرض عن خطابهم، ليصح التلاؤم ويناسب اللفظ المعنى، وهذا من أرفع أنواع البلاغة وأرقاها، وكم للالتفات من أسرار ذكروها في محلها.
ومنها: العدول عن صيغة المضارع المستقبل، إلى الماضي في قوله: ﴿فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ﴾ للدلالة على أن ما ينذرهم به أمر متحقّق لا مندوحة عنه، وعبارة "الروح": وصيغة الماضي فيه الدلالة على تحقق الإنذار المنبىء عن تحقق المنذر به.
ومنها: الإسناد المجازيّ في قوله: ﴿عَذَابَ الْخِزْيِ﴾ فإنه أضاف العذاب إلى الخزي الذي هو الذلّ والاستكانة، وهو في الأصل صفة المعذّب، ولكنّه جنح إلى وصف العذاب به للمبالغة.
ومنها: المشاركة في قوله: ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى﴾ وجعل الخزي هذه المرّة خبرًا للمشاكلة، على حدّ قول الشاعر:
قَالُوْا: اقْتَرِحْ شَيْئًا نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ... قُلْتُ: اطْبُخُوْا لِيْ جُبَّةً وَقَمِيْصَا
أي: خيطوا لي، فأطلق الخياطة بلفظ الطبخ، لمشاكلة ما قبله.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ فقد شبّه الكفر بالعمى؛ لأنّ الكافر ضال عن القصد، متعسف الطريق كالأعمى، وشبّه الإيمان بالهدى؛ لأن المؤمن مهتد إلى محجّة القصد وسواء السبيل، ثم حذف المشبّه في كليهما وأثبت المشبّه به الذي هو العمى والهدى.
ومنها: الطباق بين ﴿الْعَمَى﴾ و ﴿الْهُدَى﴾.
ومنها: صيغة جمع العقلاء في خطاب الجلود في قوله: ﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا﴾ وكذا في قوله: ﴿قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ...﴾ إلخ. لوقوعهما في موقع السؤال والجواب المختصين بالعقلاء كما مرّ.
ومنها: تخصيص الجلود، لكون شهادتها أعجب من شهادة السمع والبصر، إذ ليس شأنها الإدراك.
ومنها: الالتفات من الخطاب في قوله: ﴿أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ إلى الغيبة في قوله: ﴿فَإِنْ يَصْبِرُوا...﴾ إلخ. للإشعار بإبعادهم عن حيّز الخطاب،


الصفحة التالية
Icon