يقتضيه المقام، والفاء عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير؛ أي: أنهملكم يا أهل مكة إهمالًا، فننحي عنكم الذكر والقرآن، ونبعده عنكم، ونمسك عن إنزاله لكم.
والمعنى: أنمسك عن إنزال ما لم ينزل منه، ونرفع ونزيل ما نزل منه، ونترك عنكم الأمر والنهي والوعد والوعيد، مأخوذ من قولهم: ضرب الغرائب عن الحوض؛ أي: طردها عنه. والمراد بالغرائب: البعران الأجانب؛ لأن الإبل إذا وردت الماء ودخلت فيها ناقة غريبة من غيرها ذبت وطردت عن الحوض، وقوله: ﴿صَفْحًا﴾ مفعول لأجله؛ أي: أفنضرب عنكم الذكر ونرفعه صفحًا وإعراضًا عنكم، أو حال من فاعل نضرب، أي: نضرب عنكم الذكر صافحين؛ أي: معرضين عنكم، أو مصدر معنوي لنضرب، فإن تنحية الذكر عنهم إعراض؛ أي: أفنعرض عنكم بترك إنزال الذكر صفحًا وإعراضًا لأجل ﴿أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾؛ أي: منهمكين في الإسراف، مجاوزين الحد في المعاصي، مصرين عليها على معنى: أن حالكم وإن اقتضى تخليتكم وشأنكم حتى تموتوا على الكفر والضلالة، وتبقوا في العذاب الخالد، لكنا لسعة رحمتنا لا نفعل ذلك، بل نهديكم إلى الحق بإرسال الرسول الأمين - ﷺ -، وإنزال الكتاب المبين. قال قتادة: والله لو كان هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن عاد بعائدته ورحمته، فكرره عليهم عشرين سنة، أو ما شاء الله سبحانه. وقرأ (١) نافع وحمزة والكسائي ﴿إن كنتم قومًا مسرفين﴾ بكسر الهمزة على أنها الشرطية. والجواب محذوف لدلالة ما قبله عليه، وقد تشكل هذه القراءة بأن إسرافهم كان متحققًا. فكيف دخلت عليه إن الشرطية التي لا تدخل إلا على غير المتحقق، أو على المتحقق الذي انبهم زمانه. وقرأ الجمهور ﴿أَنْ كُنْتُمْ﴾ بفتح الهمزة؛ أي: من أجل أن كنتم، واختار أبو عبيد قراءة الفتح لما ذكر. وقرأ زيد بن علي ﴿إذ كنتم﴾ بالذال مكان النون.
والمعنى (٢): أي أنترك إنذاركم وتذكيركم بالقرآن لانهماككم في الكفر والإعراض عن أوامره ونواهيه، كلا لا نفعل ذلك رحمةً بكم، وقد كانت حالكم

(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.


الصفحة التالية
Icon