والمعنى: أي (١) وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، جعلها دائمةً في ذريته، يقتدي به فيها من هداه الله تعالى منهم، فلا يزال فيهم من يوحد الله سبحانه إلى يوم القيامة، رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم، كأهل مكة، بدعاء الموحد منهم، فإنهم إذا ذكروا أباهم الأعظم الذي بني لهم البيت، وأورثهم ذلك الفخر، تبعوه في ملته الحنفية، وتأثروا بأبوته إن كانوا يدعون تقليد الآباء. قال قتادة: لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة، وقال ابن العربي (٢): إنما كانت لإبراهيم في الأعقاب موصولة بالأحقاب، بدعوتيه المجابتين، إحداهما قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ فقد قال: إلا من ظلم منهم فلا عهد له. ثانيتهما قوله: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾.
وقيل (٣): الفاعل في جعلها الله سبحانه وتعالى؛ أي: وجعل الله عز وجل كلمة التوحيد باقيةً في عقب إبراهيم، وقيل: الضمير في ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ راجع إلى أهل مكة؛ أي: لعل أهل مكة يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم، وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: فإنه سيهدين لعلهم يرجعون، وجعلها إلخ، قال السدي: لعلهم يتوبون فيرجعون عما هم عليه إلى عبادة الله تعالى.
٢٩ - ثم ذكر سبحانه نعمته على قريش، ومن وافقهم من الكفار المعاصرين لهم، فقال: ﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ﴾ إضراب عن محذوف؛ أي: فلم يحصل ما رجاه، بل متعت وأنعمت منهم هؤلاء المعاصرين لمحمد - ﷺ - من أهل مكة ﴿وَآبَاءَهُمْ﴾ بالمد في العمر والبسط في النعمة، فاغتروا بالمهلة وانهمكوا في الشهوات، وشغلوا بها عن كلمة التوحيد ﴿حَتَّى جَاءَهُمُ﴾؛ أي: جاء هؤلاء المعاصرين لمحمد - ﷺ - ﴿الْحَقُّ﴾ أي: القرآن ﴿وَرَسُولٌ مُبِينٌ﴾، محمد - ﷺ - ظاهر الرسالة واضحها بالمعجزات الباهرة، أو مبين التوحيد بالآيات البينات والحجج الواضحات، أو مبين لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين، فلم يجيبوه ولم يعملوا بما أنزل عليه، فحتى ليست
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.