وبحثًا في دقائق الأشياء وعظائمها أصبح موقنًا به وكلما ازداد بحثًا، ازداد عقله دراية، وفهما لأسرار هذا الكون، فسخره لمنافعه، واستفاد من نظمه التي وجد عليها، وعرف أنه لم يخلق عبثًا، بل خلق للانتفاع بما في ظاهره وباطنه، علويه وسفليه، أرضه وسماله، نوره وظلامه، فكأنه يقول: إنا أمرناكم بالنظر في العالم لتؤمنوا، فإذا ازددتم نظرًا أيقنتم بي، وذلك كله مما يربي عقولكم، ويكملها إلى أقصى حدود طاقتها البشرية.
وفي "فتح الرحمن": إن قلت: لم ختم (١) الآية الأولى بقوله ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، والثانية بقوله: ﴿يُوقِنُونَ﴾، والثالثة بقوله ﴿يَعْقِلُونَ﴾.
قلتُ: لأنه تعالى، لما ذكر العال ضمنًا، ولا بد له من صانع، موصوف بصفات الكمال، ومن الإيمان بالصانع، ناسب ختم الأولى ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، ولما كان الإنسان أقرب إلى الفهم من غيره، وكان فكره في خلقه وخلق الدواب، مما يزيده يقينًا في إيمانه، ناسب ختم الثانية بقوله: ﴿يُوقِنُونَ﴾، ولما كان جزئيات العالم من اختلاف الليل والنهار، وما ذكره معهما مما لا يدرك إلا بالعقل، ناسب ختم الثالثة بقوله: ﴿يَعْقِلُونَ﴾، انتهى.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿آيَاتٌ﴾ جمعًا بالرفع فيهما، وقرأ الأعمش والجحدري وحمزة والكسائي ويعقوب: بالنصب فيهما، وزيد بن علي: برفعهما على التوحيد، وقرأ أبي وعبد الله: ﴿لآيات﴾ فيهما كالأولى، وتنكير آيات (٣) في المواضع الثلاثة للتفخيم كما وكيفا، والعقل يقال: للقوة المتهيئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل، ولهذا قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
فَإِنَّ الْعَقْلَ عَقْلَانِ | فَمَطْبُوْعٌ وَمَسْمُوْعُ |
وَلَا يَنْفَعُ مَطْبُوْعٌ | إِذَا لَمْ يَكُ مَسْمُوْعُ |
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.