وحاصل المعنى (١): أي شرع لكم من الدين، ما شرع لنوح ومن بعده، من أرباب الشرائع، وأولي العزم من الرسل، وأمرهم به أمرًا أكيدًا، وتخصيص هؤلاء الأنبياء بالذكر، كما تقدم آنفًا، لعلو شأنهم، وعظيم شهرتهم، ولاستمالة قلوب الكفار إلى اتباعه، لاتفاق كلمة أكثرهم على نبوتهم، واختصاص اليهود بموسى عليه السلام، والنصارى بعيسى عليه السلام، وإلا فكل نبي مأمور بما أمروا به، من إقامة دين الإِسلام، وهو التوحيد وأصول الشرائع والأحكام، مما لا يختلف باختلاف الأعصار، كالإيمان بالله واليوم الآخر، والملائكة واكتساب مكارم الأخلاق وفاضل الصفات.
وفي الآية: إيماء إلى أن ما شرعه لهم، صادر عن كامل العلم والحكمة، وأنه دين قويم أجمع عليه الرسل، وما أوحاه إليه، هو إما ما ذكر في صدر السورة، وفي قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا﴾ الآية، وإما ما يعمهما وغيرهما مما وقع في سائر المواضع، التي من جملتها قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾، وقوله: ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾.
ثم فصل ما شرعه بقوله: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ المراد (٢) بإقامته تعديل أركانه، وحفظه من أن يقع فيه زيغ، أو المواظبة والتشمر له و ﴿أَنْ﴾ تفسيرية بمعنى أي؛ أي: أقيموا الدين لأنه قد تقدمها ما في معنى القول. ويجوز أن تكون مصدرية في محل رفع خبر مبتدأ مقدر، تقديره: هو أن أقيموا إلخ، أو في محل نصب، بدلًا من الموصول، أو في محل جر، بدلًا من الدين، اهـ "سمين".
وعبارة "أبي السعود": ومحل ﴿أَنْ أَقِيمُوا﴾ إما النصب على أنه بدل من مفعول ﴿شَرَعَ﴾ والمعطوفين، أو الرفع على أنه جواب سؤال، نشأ من إبهام المشروع، كأنه قيل: وما ذاك، فقيل، هو إقامة الدين؛ أي: أقيموا دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته، والإيمان بكتبه ورسله وباليوم الآخر، وسائر ما يكون الرجل به مؤمنًا، ﴿وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾؛ أي: في الدين، الذي هو عبارة عن
(٢) أبو السعود.