بمعنى كم الخبرية، قال المولى الجامي في "شرح الكافية": إنما (١) بني كأيّن؛ لأنه كاف التشبيه دخلت على أيّ، وأيُّ في الأصل: كان معربًا، لكنَّه انمحى عن الجزئين معناهما الإفرادي، فصار المجموع كاسم مفرد بمعنى كم الخبرية، فصار كأنه اسم مبني على السكون، آخره نون ساكنة كما في "من" لا تنوين تمكن، ولهذا يكتب بعد الياء نون مع أنَّ التنوين لا صورة له في الخط، انتهى. ومحلها الرفع بالابتداء ﴿مِنْ قَرْيَةٍ﴾: تمييز لها ﴿هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ﴾ صفة لـ ﴿قَرْيَةٍ﴾ ﴿الَّتِي أَخْرَجَتْكَ﴾ صفة لـ ﴿قَرْيَتِكَ﴾ وهي مكة. وقد حذف منهما المضاف وأجري أحكامه عليهما، كما يفصح عنه الخبر الذي هو قوله تعالى: ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ﴾.
ومعنى الآية: وكم من أهل قرية هم أشد قوّةً من أهل قريتك الذي أخرجوك منها، ووصف (٢) القرية الأولى بشدة القوة للإيذان بأولوية الثانية منها بالإهلاك لضعف قوّتها، كما أنَّ وصف الثانية بإخراجه - ﷺ - للإيذان بأولويَّتها به لقوة جنايتها ﴿فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ﴾ فبالأولى من هو أضعف منهم، وهم: قريش الذين هم أهل قرية النبيّ - ﷺ -، وهي: مكة، قال مقاتل: أهلكناهم بالعذاب حين كذّبوا رسولهم، وجملة قوله: ﴿فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ﴾: بيانٌ لعدم خلاصهم من العذاب بواسطة الأعوان والأنصار، إثر بيان عدم خلاصهم منه بأنفسهم، و ﴿الفاء﴾: لترتيب ذكر ما بالغير على ذكر ما بالذات، وهو حكاية حال ماضية.
ومعنى الآية (٣): أي وكثير من الأمم التي كان أهلها أشد بأسًا، وأكثر جمعًا، وأعدّ عديدًا من أهل مكة الذين أخرجوك أهلكناهم بأنواع العذاب، ولم يجدوا ناصرًا ولا معينًا يدفع عنهم بأسنا وعذابنا، فاصبر كما صبر قبلك أولو العزم من الرسل، ولا تبْخَع نفسك عليهم حسرات، فالله مظهرك عليهم، ومهلكهم كما أهلك من قبلم إن لم ينيبوا إلى ربهم، ويثوبوا إلى رشدهم، وغير خافٍ ما في هذا من التهديد الشديد، والوعيد الأكيد لأهل مكة.

(١) ملا جامي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.


الصفحة التالية
Icon