فإنَّه يخرج من بطون النحل، ولا ندري أمن فمها أم من غيره، وقد سبق جملة النقل فيه في سورة النحل.
وبدىء بالماء (١) في الذكر؛ لأنه لا يستغنى عنه في الدنيا، ثم باللبن؛ لأنه يجري مجرى المطعوم لكثير من العرب في غالب أوقاتهم، ثم بالخمر؛ لأنه إذا حصل الري والشبع.. تشوفت النفس لما يستلذ به، ثم بالعسل؛ لأنَّ فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم.
أخرج أحمد، والترمذي، وصحَّحه، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي عن معاوية بن حيدة قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "في الجنة بحر اللبن، وبحر الماء، وبحر العسل، وبحر الخمر، ثم تشقق الأزهار منها بعد".
فإن قيل (٢): ما الحكمة في قوله تعالى في الخمر: ﴿لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾؟ ولم يقل في اللبن لم يتغير طعمه للطاعمين، ولا قال في العسل: مصفّى للناظرين؟
أجاب الرازي: بأنَّ اللذّة تختلف باختلاف الأشخاص، فرب طعام يتلذذ به شخص ويعافه الآخر، فلذلك قال: ﴿لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ بأسرها، ولأنّ الخمر كريهة الطعم في الدنيا، فقال: لذّة؛ أي: لا يكون في خمر الآخرة كراهة طعم، وأمَّا الطعم واللون.. فلا يختلفان باختلاف الناس، فإنّ الحلو، والحامض وغيرهما، يدركه كل أحدٍ، لكن قد يعافه بعض الناس، ويلتذ به البعض مع اتفاقهم أنَّ له طعمًا واحدًا، وكذلك اللبن، فلم يكن للتصريح بالتعميم حاجة. اهـ. "خطيب".
وقال صاحب "الروح" (٣): وبدأ بانهار الماء لغرابتها في بلاد العرب، وشدّة حاجتهم إليها، ولما كان خلوها عن تغير أغرب.. نفاه بقوله: ﴿غَيْرِ آسِنٍ﴾. ولمَّا كان اللبن أقل فكان جريه أنهارًا أغرب.. ثنى به، ولما كان الخمر أعز.. ثلث به، ولما كان العسل أشرفها، وأقلها.. ختم به. انتهى.

(١) المراغي.
(٢) الفتوحات.
(٣) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon