وقوله: ﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ﴾ تنازع (١) فيه ﴿لَا تَرْفَعُوا﴾ ﴿وَلَا تَجْهَرُوا﴾ فيكون مفعولًا لأجله للثاني عند البصريين، وللأول عند الكوفيين، والأول أصح؛ لأنّ إعمال الأول يستلزم الإضمار في الثاني، وهو (٢): إما علّة للنهي على طريق التنازع، فكأنه قيل: انتهوا عمّا نهيتم عنه لخشية حبوط أعمالكم أو كراهته، كما في قوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ فحذف المضاف ولام التعليل، وإمّا علة للفعل المنهي عنه، كأنه قيل: انتهوا عن الفعل الذي تفعلونه لأجل حبوط أعمالكم، فاللام فيه، لام العاقبة، فإنهم لم يقصدوا بما فعلوه من رفع الصوت والجهر حبوط أعمالهم، إلا أنه لمّا كان بحيث قد يؤدي إلى الكفر المحيط.. جعل كأنّه فعل لأجله، فأدخل عليه لام العلّة تشبيهًا لمؤدى الفعل بالعلة الغائية، وليس المراد بما نهي عنه من الرفع والجهر: ما يقارنه الاستخفاف والاستهانة بشأنه - ﷺ -، وعدم المبالاة به، فإنّ ذلك كفر، وكذا ليس المراد: ما يقع من الرفع والجهر في حرب أو مجادلة معاند، أو إرهاب عدوٍ أو نحو ذلك، فإنّه لا بأس به، إذ لا يتأذى به النبي - ﷺ -، فلا يتناوله النهي، ففي الحديث: أنّه - ﷺ - قال للعباس بن عبد المطلب، لمّا انهزم الناس يوم حنين: "اصرخ بالناس"، وكان العباس أجهر الناس صوتًا، وروي: أنَّ غارة أتتهم يومًا؛ أي: في المدينة، فصاح العباس: يا صباحاه، فأسقط الحوامل لشدّة صوته، وكان يسمع صوته من ثمانية أميال.
وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ حال من فاعل ﴿تَحْبَطَ﴾؛ أي: والحال أنكم لا تشعرون بحبوطها، ولا تعلمونه، وفيه تحذير شديد، ووعيد عظيم، قال الزجّاج: وليس المراد: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾: يوجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمنًا إلا باختياره الإيمان على الكفر، كذلك لا يكون الكافر كافرًا من حيث لا يعلم، قال أبو حيان: قوله: ﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ﴾ إن كانت (٣) الآية معرّضة بمن يجهر استخفافًا.. فذلك كفر يحبط معه العمل حقيقةً، وإن

(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.


الصفحة التالية
Icon