ثم أكد علمه بجميع الأشياء، فقال: ﴿وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾؛ أي: وعندنا كتاب حافظ، ضابط لتفاصيل الأشياء كلها، أو محفوظ عن التغيير، وهذا إما تمثيل لحال علمه تعالى للكائنات جميعًا علمًا كاملًا بعلم من عنده كتاب حفيظ، يتلقّى منه كل شيء، فيضبط ما يعلم أتم الضبط، ويحصيه أكمل الإحصاء، أو تأكيد لعلمه بها، بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده.
٥ - ثمّ حكى عنهم ما هو أفظع من تعجّبهم، وهو تكذيبهم بالنبوّة الثابتة بالمعجزات من أوّل وهلة بلا تدبّر ولا تفكر، فقال: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ﴾ وهذا إضراب وانتقال من بيان شناعتهم السابقة إلى بيان ما هو أشنع منه وأفظع، وهو تكذيبهم بالنبوّة الثابتة بالمعجزات الباهرة، فالأفظعيّة لكون الثاني تكذيبًا للأمر الثابت من غير تدبّر، بخلاف الأول، فإنه تعجّب؛ أي: بل كذّبوا بالحق الذي جاءهم، وهو محمد - ﷺ -، أو القرآن. ﴿لَمَّا جَاءَهُمْ﴾؛ أي: حين جاءهم الحق من غير تأمّل وتفكر تقليدا للآباء، وبعد التأمل تمردًّا وعنادًا، وجاء بكلمة التوقع إشعارًا بأنّهم علموا بعد علو شأنه، وإعجازه الشاهد على حقيقته، فكذّبوا به بغيًا وحسدًا.
وقرأ الجمهور: ﴿لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ بفتح اللام وتشديد الميم، وقرأ الجحدري: بكسر اللام وتخفيف الميم، فاللام حرف جرٍ وما مصدرية، واللام كهي في قولهم: كتبته لخمس خلون من كذا؛ أي: عند مجيئه إياهم. ذكره في "البحر".
﴿فَهُمْ﴾؛ أي: كفار مكة ﴿فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾؛ أي: في أمر مختلط مضطرب عليهم، من مرج الخاتم في إصبعه: إذا اضطرب عليها من سعته بسبب الهزال؛ أي (١): في أمر مضطرب لا قرار له، من غلبات آفات الحس والوهم والخيال على عقولهم، فلا يهتدون إلى الحق، ولذا يقولون تارةً: إنه شاعر، وتارةً ساحر، وأخرى كاهن، ومرّة مفترٍ، لا يثبتون على شيء واحد، وهذا اضطرابهم في شأن النبيّ - ﷺ - صريحًا، ويتضمن ذلك اضطرابهم في شأن القرآن أيضًا، فإنّ نسبتهم

(١) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon