والملكوت ما لا يحيط به نطاق العبارة. فقوله (١): ﴿مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ﴾ حال قدمت على صاحبها. وكلمة ﴿مِنْ﴾ للبيان، لأنّه المناسب لمرام المقام. وهو التعظيم والمبالغة. ولذا لم تحمل على التبعيض على أن يكون هو المفعول. ويجوز أن يكون ﴿الْكُبْرَى﴾ صفة للآيات، والمفعول محذوف؛ أي: شيئًا عظيمًا من آيات ربه. أي: ولقد رأى الآيات الكبرى من آيات ربه، وعجائبه الملكوتية. روى البخاري، وابن جرير، وابن المنذر في جماعة آخرين عن ابن مسعود: أنه قال في الآية: "رأى رفرفًا أخضر من الجنة سد الأفق"، أي: فجلس عليه، وجاوز سدرة المنتهى. والرفوف: البساط. وهو صورة همته البسيطة العريضة المحيطة بالآفاق مطلقًا؛ لأنّه - ﷺ - في سفر العالم البسيط، ولا يصل إليه إلا من له علو الهمة مثله. وقد قال حسّان بن ثابت رضي الله عنه في نعته - ﷺ -:

لَهُ هِمَمٌ لَا مُنْتَهَى لِكِبَارِهَا وَهِمَّتهُ الصُّغْرَى أَجَلُّ مِنَ الدَّهْرِ
وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال في الآية: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (١٨)﴾ قال: رأى جبريل في صورته له ست مئة جناح، ورأى في تلك الليلة طوائف الملائكة، وسدرة المنتهى، وجنة المأوى، وما في الجنان لأهل الإيمان، وما في النيران لأهل الطغيان والظلم والأنوار، وما يعجز عنه الأفكار، وتحار فيه الأبصار. ومن ذلك ما رآه في السموات من الأنبياء عليهم السلام إشارة بكل بني إلى أمر دقيق جليل، وحالة شريفة، كما ذكره الإمام السهيلي في "الروض الأنف".
وعلينا أن لا نحضر ما رآه في شيء بعينه بعد أن أبهمه القرآن. إذ هو قد رأى من الآيات الكبرى ما يجل عنه الحصر والاستقصاء.

فصل


نبذة من كلام الشيخ محيي الدين النواوي رحمه الله تعالى في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣)﴾ وهل رأى نبينا محمد - ﷺ - ربه عز وجل ليلة الإسراء؟. قال القاضي عياض: اختلف السلف والخلف هل رأى نبينا - ﷺ - ربه ليلة الإسراء، فأنكرته عائشة كما وقع في "صحيح مسلم"، وجاء مثله عن أبي هريرة،
(١) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon