قلت: الآيات كلها متفقة المعنى؛ لأنه تعالى خلقه من تراب، ثم جعله طينًا ثم حمأً مسنونًا، ثم صلصالًا. فهذه مراحل وأطوار في خلق الإنسان، وفي كل سورة إشارة إلى بعض هذه الأطوار. فإنه تعالى أخذه من تراب الأرض، فعجنه بالماء، فصار طينًا لازبًا؛ أي: متلاصقًا يلصق باليد، ثم تركه حتى صار حمأً مسنونًا أي: طينًا أسود منتنًا، ثم يبس، فصار كالفخار، له صوت وصلصلة.
إيضاح هذا (١): أن الطين المطبوخ مركب من الطين والحرارة التي أنضجته وسوته لتخفظ كيانه، وهكذا الإنسان، له شهوة الطعام والشراب والتزاوج، لتبقى بنيته، وتدوم حياته بالمادة الأرضية التي اجتذبها النبات من الأرض، وله قوة غضبية تورثه الشجاعة والقوة؛ ليحافظ على بقائه وحياته، ويمنع عن نفسه عاديات الكواسر، ومهاجمات الجيوش، والأعداء المحيطة به من كل جانب. وهذه القوة في الإنسان تقابل طبخ الطعام ليصير فخارًا، فتتماسك أجزاوه، ولولاها لما استطاع المحافظة علي هيكله المنصوب، وجسمه المحبوب من الكواسر، وأهل القسوة من بني الإنسان. ولأصبح قتيلًا في الفلوات تأكله الطير، أو تهوي بأجزائه الريح في مكان سحيق. كما أن الطين إذا لم يطبخ يتفتت، وتذروه الرياح، أو يذوب في أجزاء الأرض.
١٥ - ﴿وَخَلَقَ﴾ سبحانه ﴿الْجَانَّ﴾؛ أي: الجن أو أبا الجن أو إبليس، وبه قال الضحاك. وفي "الكشف": الجان: أبو الجن، كما أن الإنسان أبو الإنس، وإبليس أبو الشياطين. ﴿مِنْ مَارِجٍ﴾؛ أي: من لهب صاف من الدخان. وقال مجاهد: المارج: هو المختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر، والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا وقدت من مرج أمر القوم إذا اختلط واضطرب. فمعنى ﴿مِنْ مَارِجٍ﴾ من لهب مختلط. ﴿مِنْ نَارٍ﴾ بيان لـ ﴿مَارِجٍ﴾. كأنه قيل: من صاف من نار، أو مختلط من نار. وفي "كشف الأسرار": خلق الجن من مارج من نار، والملائكة من نورها، والشياطين من دخانها.
أي (٢): وخلق الجن من النار الصافية المختلط بعضها ببعض، فمن لهب أصفر إلى أحمر إلى مثوب بالخضرة. فكما أن الإنسان من عناصر مختلفات

(١) المراغي.
(٢) المراغي.


الصفحة التالية
Icon