والمعنى (١): أي إنَّ جميع أهل الأرض يذهبون ويموتون، وكذلك أهل السموات. ولا يبقى سوى وجه ربك الجليل الكريم، فإنه الحي الذي لا يموت أبدًا. قال قتادة: أنبأ بما خلق، ثم أنبأ أن ذلك كله فان. وقد ورد في الدعاء المأثور: "يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك نستغيت أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك".
ثم وصف سبحانه نفسه بالاستغناء الحطلق، والفضل العام، وأنه ذو الجود والكبرياء، يعطي خلقه من النعم والإكرام ما يليق بحالهم، ولا يحجب فضله عن مخلوق خلقه، انظر إلى (٢) هذه النجوم الثواقب في ظلمات الليل تراها مشرقة ساطعة تتلألأ نورًا تشرح له الصدور، وتقر به العيون، فتتجلى لك عظمة الخالق وكبرياؤه، تموت الأحياء وتلك النجوم باقية، والأرض لم تتغير على ما نشاهد، وهذا مظهر الجلال والعظمة، جمال في النجوم، بهجة في الإشراق، مناظر باهرة، أنوار ساطعة، أجسام عظيمة، أحوال تتقلب، وأهوال تتعاقب، والناس من بينها يخرون صعقين. فهذا لعمرك هو الجلال والعظمة، فسبحان الخلاق العظيم!.
٢٨ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٨)﴾؛ أي: فبأيّ هذه النعم تكذّبان، فالفناء باب للبقاء، وللحياة الأبدية، والنعم السرمدية، ولولا تحليل أجسامنا بالموت لتعطلت الحياة؛ إذ المادة الأرضية إذا بقيت على حال واحدة كانت قواها محدودة، لكن انبعاث الصور الكثيرة، وتعاقبها جيلًا بعد جيل يلبس المادة جميع الصور والأشكال، ويجعل العالم في تجدد مستمر، وقال مقاتل: وجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت، ومع الموت تستوي الأقدام. انظر إلى بني الإنسان مثلًا إذ توالدوا جيلًا بعد جيل، ولم يمت منهم أحد فلا تمضي إلا أجيال معدودة، حتى يكون على القدم ألف قدم، وتمتلىء الأرض بالآدميين، فلا يكفيهم حيوان أرضي ولا نبات مأكول، ولا يجدون وسيلة للعيش، إلا أن يأكل بعضهم بعضًا، وتمتلىء الأرض رممًا آدمية من السغب والمخمصة.
(٢) المراغي.