قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم". أخرجه أحمد. أولئك المتصفون بذلك الوصف الجليل "السَّبْق" هم الذي نالوا حظوةً عند ربهم، وهم في جنات النعجم يتمتعون فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقرأ الجمهور (١): ﴿فِي جَنَّاتِ﴾ بالجمع. وقرأ طلحة بن مصرف ﴿في جنّة﴾ بالإفراد. وإضافة الجنات إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه كما يقال: دار الضيافة، ودار الدعوة؛ ودار العدل.
١٣ - وارتفاع: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣)﴾ على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم أمم كثيرة، وجماعة من الأولين غير محصورة العدد، أي: أولئك السابقون جماعة من الأولين، وهم الأمم السالفة من لدن آدم إلى نبيّنا عليهما السلام، وعلى من بينهما من الأنبياء العظام، وهذا التفسير مبنيّ على أن يراد السابقين: غير الأنبياء. و (٢) اشتقاق الثلة من الثل. وهو الكسر. وجماعة السابقين مع كثرتهم مقطوعة مكسورة من جملة بني آدم. وقال الراغب: الثلة: قطعة مجتمعة من الصوف؛ ولذلك قيل للغنم: ثلة، ولاعتبار الاجتماع قيل: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣)﴾؛ أي: جماعة منهم
١٤ - ﴿وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)﴾؛ أي: من هذه الأمّة. ولا يعارضه قوله - ﷺ - "إن أمتي يكثرون سائر الأمم" أي: يغلبونهم بالكثرة. فإن أكثرية سابقي الأمم السالفة من سابقي هذه الأمّة لا تمنع أكثرية تابعي هؤلاء من تابعي أولئك مثل أن يكون سابقوهم ألفين، وتابعوهم ألفًا. فالمجموع ثلاثة آلاف. ويكون سابقوا هذه الأمّة ألفًا وتابعوهم ثلاثة آلاف. فالمجموع أربعة آلاف فرضًا. وهذا المجموع أكثر من المجموع الأوّل. وفي الحديث: "أنا أكثر الناس تبعًا يوم القيامة".
والحاصل: أن المراد بالأولين في قوله: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣)﴾ هم (٣) الأمم السابقة من لدن آدم إلى نبيّنا محمد، وبالآخرين في قوله: ﴿وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)﴾؛ أي: من هذه الأمة المحمدية. وسموا قليلًا بالنسبة إلى من كان قبلهم.

(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.


الصفحة التالية
Icon