لهذه الكلمة، وبدأ بالمصدر في الإسراء؛ لأنه الأصل، ثم بالماضي في الحديد، والحشر، والصف؛ لأنه أسبق الزمانين. ثم بالمضارع في الجمعة والتغابن لشموله الحال والمستقبل، ثم بالأمر في الأعلى لخصوصه بالحال مع تأخره في النطق به في قولهم: فعل يفعل إفعل.
وفيه تعليم (١) عباده استمرار وجود التسبيح منهم في جميع الأزمنة، والأوقات.
والحاصل: أن كلًّا من صيغتي الماضي والمضارع جردت عن الدلالة على مدلولها من الزمان المخصوص. فأشعر باستمراره في الأزمنة لعدم ترجح البعض على البعض. فالمكونات من لدن إخراجها من العدم إلى الوجود، مسبحة في كل الأوقات، لا يختص تسبيحها بوقت دون وقت، بل هي مسبحة دائمًا في الماضي، وتكون مسبحة أبدًا في المستقل.
وفي الحديث: "أفضل الكلام أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. لا يضرك بأيهن بدأت". والمراد (٢) بالتسبيح المسند إلى ما في السماوات والأرض من العقلاء، وغيرهم، والحيوانات، والجمادات: هو ما يعم التسبيح بلسان المقال كتسبيح الملائكة، والإنس، والجن. وبلسان الحال كتسبيح غيرهم. فإن كل موجود يدل على الصانع. وقد أنكر الزجاج أن يكون تسبيح غير العقلاء هو تسبيح الدلالة. وقال: لو كان هذا تسبيح الدلالة، وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة. فلِمَ قال: ﴿وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾؟ وإنّما هو تسبيح مقال، واستدل بقوله: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ﴾. فلو كان هذا التسبيح من الجبال تسبيح دلالة لم يكن لتخصيص داود فائدة.
وفعل التسبيح قد يتعدى بنفسه تارةً كما في قوله: ﴿وَسَبِّحُوهُ﴾، وباللام أخرى كهذه الآية. واللام إما مزيدة للتأكيد كما في نصحت له، وشكرت له في نصحته وشكرته أو للتعليل، والفعل منزل منزلة اللازم؛ أي: فعل ما في السموات والأرض التسبيح، وأوقعه، وأحدثه لأجل الله تعالى وخالصًا لوجهه. وعبر بما التي لغير

(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.


الصفحة التالية
Icon