فيهم ما قيل: قد يؤتى الحَذِرُ من مأمنه. فأجلاهم النبي - ﷺ - من المدينة، فذهبت طائفة منهم إلى أذرعات من أعالي الشام، وطائفة إلى خيبر، على أن يأخذوا معهم ما حملت إبلهم.
ثم بيّن أسباب هذا الاستسلام السريع والنزول على حكم الرسول على مناعة الحصون وكثرة العَدد والعُدَد فقال: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾؛ أي: بث في قلوبهم الهلع والخوف حين جاء رسول الله - ﷺ - وأصحابه إليهم، فلم يستطيعوا إلى المقاومة سبيلًا، ومما كان له بالغ الأثر في هذا الخوف: قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غيلة، وما رأوه من كذب وعد عبد الله بن أبي رأس المنافقين في نصرتهم وإرسال المدد إليهم وتغريره بهم، وتوسيع مسافة الخلف بينهم وبين الرسول - ﷺ -. فهم قد أوقدوا نارًا كانوا هم حطب لهبها، وفتحوا ثغرة برؤوسهم قد سدوها، ووقعوا في حفرة هم الذين كانوا قد حفروها، فابتلعتهم لا إلى رجعة.
ثم بيَّن مدى ما لحقهم من الهلع والجزع، وكيف حاروا في الدفاع عن أنفسهم، فقال: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ...﴾ إلخ؛ أي: يخربون بيوتهم بأيديهم. ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجاز أفواه الأزقة، حتى لا يدخلها العدو، وحتى لا تبقى صالحة لسكنى المؤمنين بعد. جلائهم، ولينقلوا بعض أدواتها التي تصلح للاستعمال في جهات أخرى؛ كالخشب والعمد والأبواب. ويخربها المؤمنون من خارج؛ ليدخلوها عليهم، ويزيلوا تحصنهم بها، وليتسع مجال القتال، ويكون في ذلك عظيم التنكيل والغيظ لهم.
ثم ذكر ما يجب أن يجعله العاقل نصب عينيه من عظة واعتبار، فقال: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾؛ أي: فاتعظوا يا ذوي البصائر السليمة والعقول الراجحة بما جرى لهؤلاء، من أمور عظام وبلاء ما كان يخطر لهم ببال، وأسباب تحار في فهمها العقول، ولا يصل إلى عنه حقيقتها ذوو الآراء الحصيفة. وابتعدوا عن الكفر والمعاصي التي أوقعتهم في هذه المهالك، فالسعيد من وعظ بغيره وإياكم والغدر والاعتماد على غير الله، فما اعتمد أحد على غيره إلا ذلّ.
٣ - ثم بيَّن أن الجلاء الذي كتب عليهم كان أخف من القتل والأسر، فقال: ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ﴾ وحكم في سابق علمه ﴿عَلَيْهِمُ﴾؛ أي: على بني النضير