الآخرة. والجملة (١) مستأنفة غير متعلقة بجواب ﴿لولا﴾ إذ لو كانت معطوفة عليه.. لزم أن ينجوا من عذاب الآخرة أيضًا؛ لأن ﴿لولا﴾ تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط، وإنما جيء به لبيان أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا بكتابة الجلاء.. لا نجاة لهم من عذاب الآخرة. يقول الفقير: لا يلزم من نجاتهم من عذاب الدنيا أن لا يكون جلاؤهم من قبيل العذاب، وإنما لم يكن منه بالنسبة إلى عذاب الاستئصال. والحكمة في جلائهم: أنهم قصدوا قتل النبي - ﷺ -، وقتله شر من ألف قتل، فأخذوا بالجلاء ليموتوا كل يوم ألف مرة؛ لأن انقطاع النفس عن مألوفاتها بمنزلة موتها، فجاء الجزاء من جنس العمل.
والمعنى (٢): أي ولولا أن الله قدر الجلاء من المدينة وخروجهم من أوطانهم على هذا الوجه المهين.. لعذبهم في الدنيا بما هو أفظع منه، من قتل وأسر، كما فعل مع المشركين في وقعة بدر، وكما فعل مع بني قريظة في سنة خمس من الهجرة، كفاء غدرهم وخيانتهم، وتأليب المشركين على المؤمنين، والسعي في إطفاء نور الإِسلام حتى لا تقوم لهم قائمة، إلى ما أعد لهم في الآخرة من عذاب مقيم ونكال وجحيم، حين تقوم الساعة وتجازى كل نفس بما كسبت.
٤ - ثم بيّن السبب فيما حل بهم، وذر علته بقوله: ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: ما حاق بهم من الجلاء، وسيحيق من عذاب الآخرة. ﴿بِأَنَّهُمْ﴾؛ أي: بسبب أنهم ﴿شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾؛ أي: خالفوا أمرهما، وفعلوا ما فعلوا مما حكي عنهم من القبائح. والمشاقة: كون الإنسان في شق ومخالفه في شق آخر. ﴿وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ﴾ كائنًا من كان ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ له. فهو (٣) نفس الجواب بحذف العائد، أو تعليل للجزاء المحذوف؛ أي: يعاقبه الله، فإن الله شديد العقاب، فإذًا لهم عقاب شديد أيضًا لكونهم من المشاقين، وأيا ما كان، فالشرطية تحقيق للسببية بالطريق البرهانيّ. وفيه إشعار بأنّ المخالفة تقتضي المؤاخذة بقدر قوتها وضعفها، فليحذر المؤمنون من العصيان مطلقًا. واقتصر هاهنا على مشاقة الله؛ لأنَّ مشاقته مشاقة لرسوله. وقيل: بينهما فوق، فإن مشاقة الله: الامتناع من امتثال المأمورات بإنكارها، كالامتناع من أداء الصلوات لجحدها، وكذا للزكاة والحج مثلًا. ومشاقة

(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon