هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه (١) لما أنَّب التاركين للقتال الهاربين منه بقوله: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ ذكر هنا أن حالهم يشبه حال بني إسرائيل مع موسى حين ندبهم إلى قتال الجبارين بقوله: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ الآية. فلم يمتثلوا، وعصوه أشد العصيان، و ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا...﴾ الآية. وقالوا أيضًا: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾، وأصروا على ذلك، وآذوه أشد الإيذاء. فوبخهم على ذلك بما جاء في الآية الكريمة، وقد صرفهم الله سبحانه عن قبول الحق، وألحق بهم الضيم والدل في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى. ومثلهم أيضًا في عصيانهم مثل بني إسرائيل حين قال لهم عيسى بن مريم: ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾، وجاءهم بالبينات والمعجزات الدالة على صدقه، وقال: إني مبشر برسول يأتي من بعدي يسمى: أحمد، فعصوه وكذبوه، ولم يمتثلوا أمره.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف أن الجاحدين لنبوته - ﷺ - من المشركين وأهل الكتاب لما جاءهم بالبينات قالوا: هذا سحر مفترى.. أردف ذلك ببيان أنهم دعوا إلى الإِسلام والخضوع لخالق الخلق ومبدع العالم، وأقيمت لهم على ذلك الأدلة ونصب لهم المنار، لكنهم ظلموا أنفسهم وجحدوا النور الواضح والبرهان الساطع:

قَدْ تُنْكِرُ الْعَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ وَيُنْكِرُ الْفَمُ طَعْمَ الْمَاءِ مِنْ سَقَمِ
ثم بين أن السبب في ذلك هو سوء استعدادهم وتدسيتهم لأنفسهم، وأن مثلهم في صد الدعوة عن الدين مثل من يريد إطفاء نور الشمس بالنفخ بفيه، وأنى له ذلك؟ فالله متم نوره ومكمل دينه مهما جد المشركون في إطفائه. فالرسول - ﷺ - ما جاء إلا بما فيه هداية البشر وسعادتهم في معاشهم ومعادهم، وبالدين الحق الذي لا تجد العقول مطعنًا فيه ولا طريقًا إلَّا الاعتراف بما جاء به من حكم وأحكام.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ...﴾
(١) المراغي.


الصفحة التالية
Icon