قال القرطبي - رحمه الله تعالى -: ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢)﴾. وقد ورد الوعيد في حق من يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضًا؛ أي: كما ورد في حق من يترك العمل. فالخوف إذا كان على كل منهما في درجة متناهية فكيف على من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف؟! أكثر الناس في هذا الزمان هكذا، والعياذ بالله تعالى. انتهى.
٤ - وبعد أن ذمّ الذين وعدوا بالقتال ونحوه من أفعال الخير ولم يفعلوا.. مدح الذين قاتلوا في سبيله وبالغوا فيه، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ﴾ أعداء الله ﴿فِي سَبِيلِهِ﴾؛ أي: في طريق مرضاته وإعلاء دينه؛ أي: يرضى عنهم ويثني عليهم. و ﴿صَفًّا﴾: مصدر وقع موقع الفاعل أو المفعول، ونصبه على الحالية من فاعل يقاتلون؛ أي: حال كونهم صافين أنفسهم أو مصفوفين، أو منصوب على المصدرية بعامل محذوف، والمفعول محذوف؛ أي: يصفون أنفسهم صفًا. والصفّ: أن يجعل الشيء على خط مستوٍ كالناس والأشجار. هذا بيان لما هو مرضي عنده تعالى بعد بيان ما هو ممقوت عنده، وهذا صريح في أن ما قالوه عبارة عن الوعد بالقتال. وقرأ الجمهور (١): ﴿يُقَاتِلُونَ﴾ على البناء للفاعل. وقرأ زيد بن علي على البناء للمفعول. وقرىء ﴿يقتلون﴾ بالتشديد.
وجملة ﴿كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ في محل النصب على الحال من فاعل ﴿يُقَاتِلُونَ﴾ أو من الضمير المستكن في الحال الأولى. قال الزمخشري: حالان متداخلان. وقال الحوفي: ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ في موضع النعت لـ ﴿صَفًّا﴾ انتهى؛ أي: كأنهم في تراصهم وتلاصقهم من غير فرجة ولا خلل بنيان رصّ بعضه إلى بعض. والظاهر: تشبيه الذوات في التحام بعضها ببعض بالبنيان المرصوص. وقيل: المراد: استواء نياتهم في الثبات، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص.
والبنيان: الحائط، وهو واحد لا جمع، دل عليه تذكير ﴿مَرْصُوصٌ﴾. وقال بعضهم: بنيان جمع بنيانة، على حدّ نخل ونخلة، وهذا النحو من الجمع يصح تأنيثه