وتذكيره. والرص: اتصال بعض البناء بالبعض واستحكامه. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يوضع الحجر على الحجر ثم يرص بأحجار صغار ثم يوضع اللبن عليه، فيسميه أهل مكة المرصوص.
والمعنى: حال كونهم مشبهين في تراصهم من غير فرجة ولا خلل ببنيان رصّ بعضه إلى بعض، ورصف حتى صار شيئًا واحدًا. وقال الراغب: بنيان مرصوص؛ أي: محكم كأنما بني بالرصاص، وهو قول الفراء. وتراصوا في الصلاة؛ أي: تضايقوا فيها، كما قال - ﷺ -: "تراصوا بينكم في الصلاة، لا يتخللكم الشيطان" فالزحمة في مثل هذا المقام رحمة، فلا بد من سدّ الخلل أو المحاذاة بالمناكب كالبنيان المرصوص.
ففي الآية زجر عن التباطؤ، وحث على التسارع، ودلالة على فضيلة الجهاد.
والمعنى: إن الله سبحانه يحب الذين يصفُّون أنفسهم حين القتال، ولا يكون بينهم فُرَجٌ فيه، كأنهم بنيان متلاحم الأجزاء، كأنه قطعة واحدة قد صبت صبًا، وعلى هذه الطريقة تسير الجيوش في العصر الحاضر، وسر هذا أنهم إذا كانوا كذلك.. زادت قوتهم المعنوية، وتنافسوا في الطعان والنزال والكرّ والفرّ إلى ما في ذلك من إدخال الروع والفزع في نفوس العدوّ؛ إلى ما لحسن النظام من إمضاء العمل والدقة والإحكام، ومن ثم أمرنا بتسوية الصفوف في الصلاة، وأن لا يجلس المصلي في صف خلفيّ إلا إذا اكتمل ما في الصف الأمامي، وهكذا تراعي الأمم في عصرنا الحاضر النظام في كل أعمالها، في أكلها ونومها، ورياضتها وتربية أولادها، بحيث لا يطغى عمل على عمل، فللجد وقت لا يعدوه، وللرياضة وقت آخر، وللنوم كذلك؛ ولهذا لا يوجد تواكل، ولا تراخ في الأعمال ولا تخاذل فيها، ومن ثم جاء الأثر: "أفضل الأعمال إلى الله: أدومها، وإن قل".
٥ - ولما ذكر سبحانه أنه يحب المقاتلين في سبيله أراد أن يبين أن موسى وعيسى عليهما السلام أمرا بالتوحيد، وجاهدا في سبيل الله، وحل العقاب بمن خالفهما، فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال. ﴿وَإِذْ﴾ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به - ﷺ - بطريق التلوين.
أي (١): اذكر لهؤلاء المؤمنين المتقاعدين عن القتال وقت قول موسى - عليه

(١) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon