وأفرد (١) الضمير لأن العطف بـ ﴿أو﴾ لا يثنى معه الضمير، وكان المناسب إرجاعه إلى أحد الشيئين من غير تعيين على أن تخصيص التجارة برد الضمير إليها، لأنها المقصودة، أو للدلالة على أن الانفضاض إليها مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذمومًا، فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه؟ ويجوز أن يكون الترديد للدلالة على أن منهم من انففق لمجرد سماع الطبل، ورؤيته فإذا كان الطبل من اللهو وإن كان غليظًا فما ظنك بالمزمار ونحوه؟. وقد يقال: الضمير للرؤية المدلول عليها بقوله: رأوا.
وقرىء: ﴿إليهما﴾ (٢) بالتثنية للضمير، كقوله تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾. وتخريجه على أن يتجوز بـ ﴿أو﴾ فتكون بمعنى الواو. وقيل: التقدير على القراءة المشهورة: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهوًا انفضوا إليه. فحذف الثاني لدلالة الأول عليه، كما في قول الشاعر:

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
روي: أن دحية بن خليفة الكلبي قدم المدينة بتجارة من الشام، وكان ذلك قبل إسلامه، وكان بالمدينة مجاعة وغلاء سعر، وكان معه جميع ما يحتاج إليه من برّ ودقيق وزيت وغيرها، والنبي - ﷺ - يخطب يوم الجمعة، فلما علم أهل المسجد ذلك.. قاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه، فما بقي معه - ﷺ - إلا ثمانية، أو أحد عشر، أو اثنا عشر، أو أربعون، فيهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد، وبلال بن رباح، وعبد الله بن مسعود، وفي رواية: عمار بن ياسر بدل عبد الله. وذكر مسلم: أن جابرًا كان فيهم، وكان منهم سبع نسوة فقال النبي - ﷺ -: "والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعًا.. لأضرم الله عليهم الوادي نارًا". وفي "عين المعاني": "لولا الباقون لنزلت عليهم الحجارة". وقال الخطيب: فهذه الروايات المختلفة منشأ الخلاف بين الأئمة في العدد الذي تنعقد به الجمعة. اهـ. من "القرطبي".
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.


الصفحة التالية
Icon