﴿وَتَرَكُوكَ﴾ حال كونك ﴿قَائِمًا﴾: أي على المنبر. روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان النبي - ﷺ - يخطب يوم الجمعة خطبتين قائمًا يفصل بينهما بجلوس، ومن ثمة كانت السنة في الخطبة ذلك، وأول من استراح في الخطبة: عثمان، وأول من خطب جالسًا: معاوية. وفيه إشعار بأن الأحسن في الوعظ على المنبر يوم الجمعة القيام، وإن جاز القعود فيه؛ لأنه والخطبة من وادٍ واحدٍ لاشتماله على الحمد والثناء والصلاة والنصيحة والدعاء.
ثم أمره الله سبحانه أن يخبرهم بأن العمل للآخرة خير من العمل للدنيا، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم: ﴿مَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ من الجزاء العظيم على استماع الخطبة، ولزوم مجلس الرسول - ﷺ -، وهو: الجنة. و ﴿ما﴾: موصولة. خاطبهم الله سبحانه بواسطة النبي - ﷺ - لأن الخطاب هنا مشوب بالعتاب. ﴿خَيْرٌ﴾ لكم ﴿مِنَ﴾ استماع ﴿اللَّهْوِ وَمِنَ﴾ نفع ﴿التِّجَارَةِ﴾ اللذين ذهبتم إليهما، وتركتم البقاء في المسجد وسماع خطبة النبي - ﷺ - لأجلهما، فإن نفع ذلك محقق مخلد، بخلاف ما فيهما من النفع المتوهم، فنفع اللهو ليس بمحقق، ونفع التجارة ليس بمخلد، وما ليس بمخلد فمن قبيل الظن. ومنه يعلم وجه تقديم اللهو، فإنَّ للأعدام تقدمًا على الملكات. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ وأفضلهم، فمنه اطلبوا الرزق، وإليه توسلوا بعمل الطاعة، فإن ذلك من أسباب تحصيل الرزق، وأعظم ما يجلبه.
قال بعضهم (١): قوله تعالى: ﴿خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ﴾ وقوله: ﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ من قبيل الفرض والتقدير: إذ لا خيرية في اللهو ولا رازق غيره فكأن المعنى إن وجد في اللهو خير فما عند الله أشد خيرًا منه، وإن وجد رازقون غير الله.. فالله خيرهم وأقواهم وأولاهم عطية. والرزق: هو المنتفع به، مباحًا كان أو محظورًا. قيل لبعضهم: من أين تأكل؟ فقال: من خزانة ملك لا يدخلها اللصوص، ولا يأكلها السوس.
قال أبو حيان: وناسب ختم الآية بقوله: ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ لأنهم كانوا قد مسهم شيء من غلاء الأسعار، كما تقدم في سبب النزول.
والمعنى (٢): أي قل لهم - مبينًا خطأ ما عملوا -: ما عند الله مما ينفعكم في
(٢) المراغي.