فإن الشهادة وضعت للإخبار الذي طابق فيه اللسان اعتقاد القلب، وإطلاقها على الزور مجاز، كإطلاق البيع على الفاسد. نظيره: قولك لمن يقول: أنا أقرأ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)﴾: كذبت، فالتكذيب بالنسبة إلى قراءته لا بالنسبة إلى المقروء الذي هو: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)﴾. ومن هنا يقال: إن من استهزأ بالمؤذن لا يكفر، بخلاف من استهزأ بالأذان، فإنه يكفر. قال بعضهم: الشهادة حجة شرعية تظهر الحق ولا توجبه، فهي الإخبار بما علمه بلفظ خاص، ولذلك صدق المشهود به وكذبهم في الشهادة بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ...﴾ إلخ.
ودلت الآية على أن العبرة بالقلب وبالإخلاص، وبخلوصه يحصل الخلاص. وكان - ﷺ - يقبل من المنافقين ظاهر الإِسلام.
ومعنى الآية (١): أي إذا حضر مجلسك المنافقون، كعبد الله بن أبي وأصحابه.. قالوا: نشهد شهادة لا نشك في صدقها أنك رسول من عند الله حقًا، أوحى إليك وحيه، وأنزل عليك كتابه رحمة منه بعباده.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها تحقيقًا لرسالته، فقال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا؛ لتنقذهم من الضلال إلى الهدى.
ثم بيّن كذبهم في مقالهم الذي حدثوا به، فقال: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ فيما أخبروا به؛ لأنهم لا يعتقدون صدق ما يقولون، ولا تواطىء قلوبهم ألسنتهم في هذه الشهادة.
٢ - ثم ذكر أنهم يحتالون على تصديق الناس لهم بكل يمين محرجة، فقال: ﴿اتَّخَذُوا﴾؛ أي: اتخذ المنافقون ﴿أَيْمَانَهُمْ﴾ الفاجرة، التي من جملتها ما حكي عنهم. لأن الشهادة تجري مجرى الحلف فيما يراد به من التوكيد. جمع يمين، واليمين في الحلف مستعار من اليمين التي بمعنى اليد اعتبارًا بما يفعله المحالف والمعاهد عنده. واليمين بالله الصادقة جائزة وقت الحاجة، صدرت من النبي - ﷺ -، كقوله: "والله، والذي نفسي بيده". ولكن إذا لم تكن ضرورة قوية.. يصان اسم الله العزيز عن الابتذال.

(١) المراغي.


الصفحة التالية
Icon