أي: اتخذوا أيمانهم كلها، من شهادتهم هذه، وكل يمين سواها ﴿جُنَّةً﴾؛ أي: وقاية وترسًا عما يتوجه إليهم من المؤاخذة بالقتل والأسر والسبي، أو غير ذلك. واتخاذها جنة عبارة عن إعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة، ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة، لا عن استعمالها بالفعل، فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية، واتخاذ الجنة لا بدّ أن يكون قبل المؤاخذة. وعن سببها كما يفصح عنه الفاء في قوله: ﴿فَصَدُّوا﴾؛ أي: فمنعوا وصرفوا من أراد الدخول في الإِسلام بأنه - ﷺ - ليس برسول، ومن أراد الإنفاق في سبيل الله بالنهي ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ سبحانه كما سيحكي عنهم. ولا ريب في أن هذا الصد منهم متقدم على حلفهم بالفعل.
وقرأ الجمهور: ﴿أَيْمَانَهُمْ﴾: بفتح الهمزة، جمع يمين. وقرأ الحسن بكسرها مصدر آمن، ولما ذكر أنهم كاذبون.. أتبعهم بموجب كفرهم، وهو اتخاذ أيمانهم جنة يستترون بها ويذبون بها عن أنفسهم وأموالهم، كما قال بعض الشعراء:
وَمَا انْتَسَبُوا إلى الإِسْلامِ إلَّا | لِصَوْنِ دِمَائِهِمْ أَنْ لَا تُسَالَا |
ومن أيمانهم: أيمان عبد الله بن أبيّ ومن حلف معه من قومه أنه ما قال ما نقله زيد بن أرقم إلى رسول الله - ﷺ -. وقال الأعشى الهمداني:
إِذَا أنْتَ لَمْ تَجْعَل لِعَرضِك جُنَّةً | مِنَ الْمَالِ سَارَ الْقَوْمُ كُلَّ مَسِيْرِ |
﴿إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: ساء الشيء الذي كانوا يعملونه من النفاق والصد. وفي
﴿سَاءَ﴾ معنى التعجب. ومعنى الآية:
﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾؛ أي: جعلوا أيمانهم الكاذبة وقاية وسترًا لحقن دمائهم وحفظ أموالهم، فيحلفون بالله إنهم لمنكم، ويقولون: نشهد إنك لرسول الله، حتى لا تجري عليهم أحكام الكفار من القتل والأسر وأخذ الأموال غنيمة. قال قتادة: كلما ظهر عليهم ما يوجب مؤاخذتهم.. حلفوا كاذبين، عصمة لدمائهم وأموالهم. وفي هذا تعداد لقبائح أفعالهم، وأن من عادتهم أن يستجنوا بالأيمان الكاذبة كما استجنوا بالشهادة الكاذبة. ثم حكى عنهم جريمة أخرى، وهي إضلال الناس، وصدهم عن الإِسلام، فقال:
﴿فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: فمنعوا الناس عن الدخول في الإِسلام، أي: منعوا الناس عن الإيمان والجهاد وأعمال الطاعة، بسبب ما يصدر منهم من