كناية؛ لأن الانتقال من لا تلهكم إلى معنى قولنا: لا تلهوا.. انتقال من اللازم إلى الملزوم.
وقد كان المنافقون بخلاء بأموالهم؛ ولذا قالوا: ﴿لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ ومتعززين بأولادهم وعشائرهم، مشغولين بهم وبأموالهم عن الله، وطاعته وتعاون رسوله - ﷺ - فنهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم في ذلك. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾؛ أي: التلهي بالدنيا عن الدين، والاشتغال بما سواه عنه ولو في أقل حين. ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾؛ أي: الكاملون في الخسران، حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني. وفي الحديث: ما طلعت الشمس إلا بجنبيها ملكان يناديان ويسمعان الخلائق غير الثقلين: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم، ما قل وكفى خير مما كثر وألهى".
ومعنى الآية (١): أي لا يشغلكم تدبير أموالكم والعناية بشؤون أولادكم عن القيام بحقوق ربكم وأداء فرائضه التي طلبها منكم، واجعلوا للدنيا حظًا من اهتمامكم وللآخرة مثله. وهذا ما عناه الحديث: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا".
وبهذا امتازت الملة الحنيفية السمحة، فما طلب من المؤمنين أن يكونوا ماديين يتكالبون على جمع حطام الدنيا كما يفعل اليهود، ولا أن يكونوا روحانيين يجردون أنفسهم من لذات هذه الحياة ويتبتلون إلى ربهم كما يفعل المسيحيون، كما يرشد إلى هذا قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾، وقوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾. ثم توعد من يفعل ذلك، فقال: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾؛ أي: ومن تلَّه بالدنيا وشغلته عن حقوق الله.. فقد باء بغضب من ربه وخسرت تجارته، إذ باع خالدًا باقيًا واشترى فانيًا زائلًا، وكيف يرضى عاقل بمثل هذه التجارة الخاسرة.
١٠ - ومن (٢) أهم ما يقرب العبد من ربه ويجعله يفوز برضوانه: رحمة البائسين من عباده، وبذل المال في الوجوه التي فيها سعادة الأمة وإعلاء شأن الملة وانتشار
(٢) المراغي.